نقد أدبي  



تسقط السماء على رؤوسنا أما هو فينام في محطة الباص!

تاريخ النشر       30/09/2020 06:00 AM



علي عبدالأمير عجام

لا يتقصد الشاعر عبدالخالق كيطان أن يذهب إلى المفارقة كسياق كتابي في نصوصه، أكانت تلك التي تضمنتها مجموعته الخامسة الصادرة حديثاً "النوم في محطة الباص" (دار الورشة- بغداد 2020) أو مجموعاته السابقة، بل هي براءة كتابية لجهة التقاط مشاهد في الحياة هي في حقيقتها مفارقات لا تنتهي.




من هنا نبدأ من العنوان "النوم في محطة الباص"، فثمة أكثر من مفارقة، فالمكان مرتبطٌ بالرحيل والانتقال ويستوجب اليقظة والانتظار، غير ان الشاعر لفرط ما بدا متعباً من هذا المشوار الممض أن ذهب إلى خيار هو نقيض ذلك التوتر التقليدي، ذهب إلى النوم: "كنت متعباً وجائعاً".
انها المفارقة التي تتشكل منها مشاهد حياة واقعية لكنها تبدو متخيلة لفرط ما فيها من أهوال وصعاب، فمن الحرب حيث "كل جندي كان يتحسس ساقه" و"يمكنك أن تلفظ أنفاسك بسلام/ وان تغني وحدك/ اغنية المحارب الذي هزم أخيراً" بل هو في أوحال الدم هذه التي يخوضها ينتهي إلى رجل مرتبك في فراش مع امرأة "بمشّقة كهل استطعت نزع السوتيان/ وحين وصلتِ، كنت نائماً".


في رثاء الأمل!
هذا الانتقال التلقائي لا ينتظم نسيجاً متماسكاً في معظم نصوص كيطان الجديدة، ففيها ما يفلت من ذلك النسيج ليبدو كلاماً عادياً لا شعرية فيه " الشيعة والسنة، على السواء، لم يعودوا يخيفونني/ بيني وبيني أشتم الجميع/ أتظاهر بالتسامح في الكوسترات/ وبيني وبيني أشتم الجميع" وهذا يعيدنا إلى سؤال جوهري: ما الشعر عند صاحب ديوان "نازحون"؟ بل ما الشعر اليوم؟ أهو الغريب الفاتن من الكلام والمعاني، أم هو تخطيطات تلقائية لسيرة انسان باتت الحياة تسحقه بإيقاعها الثقيل: "كنّا معا في الأمسيات الباردة نذرع بغداد بحثا عن أمل". هنا الجدوى في صورة تبدو هامشية بل مكررة ولكنها تحيل إلى جوهر الأزمة: اغتراب عن المكان والبشر اللذين صارا حطاماً "هل تذكر شارع الرشيد عندما صار قفرا؟". وحيال هذا التموضع المكاني- الزماني في نص هو رثاءٌ لصديق الشاعر (الممثل عبد الخالق المختار) ننتقل مرة أخرى إلى تماسك النسيج الشعري "كثير الهموم، الذي تعرفه، مشغول بما يصدر عنك من رّقة تعّودت عليها. رّقة صارت اليوم أندر ما يمكن تخيله". هذا نص لا في رثاء الشاعر لصديقه، بل رثاء لجماليات بغدادية تتوارى، ورثاء للأمل برمّته!



ما يبدو ثقيلاً على الشعر ومتصلاً به؟
ولكونه إنساناً من عصرنا العجيب المتلاطم، لا يتركنا في نصوصه دون اشرقات روحية يلتقطها ليشتت هذا المدى الحياتي الكئيب: "كنتِ الأقدر على ركوب موجتي.. وكنتُ الأقدر على ركوب موجتكِ/ هكذا يصبح البحر هائجاً بموجتين فقط" وهنا نستدرك لنسجل زوائد لا معنى لها مثل هي تبدو إلى الشرح الذي يكبّل الايحاء والمعنى الجميل، فماذا كان سيخسر الشعر لو كان السطر على هذا النحو "هكذا يصبح البحر هائجاً بموجتين" حين تبدو "فقط" شرحاً ثقيلاً لا معنى له. وعلى النقيض من هذا ثمة الصورة الكثيفة والمعنى الذي يبدو كصفعة للضمير البشري المتعفن: "المكان، وبرغم المدنيين، يصير ساحة معركة لا تمتّ إلى الشرف بصلة"، ونواصل في تتبع ما يتصل بالشعر حقاً حيث "لا يرث الناس غير الأسى" بل هم مثل الذي "تنقطع به السبل كغريب في صحراء".
ومن هذا المعنى يتكرس نصٌ مدهش مكثف كالذي حمله "نزهة المشتاق في شوارع العراق" المهدى إلى "الشهيد عمّار الشابندر" حيث "البلاد محض اكتئاب.. مناسبةٌ مستمر للعويل"، لا بل هي "شمعة انهت احتراقها في مكان قصي" ضمن دلالة مكثفة في صدقها الصادم إذ تبدو البلاد "أغنيات كئيبة" نستدل عليها بتاريخ طويل من الدمع والدم الذي يتسع ليغدو بحيرة نغرق فيها جميعاً أو نتولى "تحية الموجة العاتية التي تلفظ القتلى على الشطآن" في إشارة نابهة على الشتات الذي انتهى إليه من توهموا النجاة أو الخلاص.




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM