مقالات  



العراق في العصر الجاهلي الحديث

تاريخ النشر       10/10/2020 06:00 AM



علي عبدالأمير عجام

يواصل دولاب الدم والدمار دورانه الصاخب في العراق منذ عقود، حتى كادت البلاد التي عرفت كمركز للتنوير والحداثة في منتصف القرن الماضي تدخل فعليا عصراً "جاهلياً "جديدا.
وتكفي أي قراءة للعراق الحديث (منذ ولادته كدولة معاصرة 1921)، وضمن أي حقل ثقافي – اجتماعي للاستدلال على مسار التدهور حد الانحطاط الذي تعيشه البلاد اليوم.
فلو تمعنا بصورة كهذه تقودنا إلى العام 1928 حين عقد السياسي ووزير العدل في أكثر من حكومة، محمود صبحي الدفتري (1889-1979) جلسة مصالحة ومصارحة بين الشاعرين اللدودين الأبرز في تلك الأيام: جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي، وضمن صالونه الأدبي "صالون الدفتري"، في داره بحيدرخانة بغداد 8 كانون الأول 1928. 




كانت عائلة "الدفتري" جزءاً من السلطة العثمانية في العراق وتحديداً ما يتعلق بالأمور الإدارية وتنظيم الأعمال (ضبط الدفاتر) ومنها جاء لقب العائلة، مثلما امتدت اللقب إلى واحدة من أبنية العمارة الحديثة في بغداد (عمارة الدفتردار المطلة على نهر دجلة ومقهاها الشهير في الطابق العاشر الذي تعرفت صباي بصحبة أخي ومعلمي قاسم).
وضمن سعي الرجل عبر استخدام نفوذه المعنوي والاجتماعي إلى إدامة النشاط الثقافي لمدينة بغداد التي يعرفها جيدا (خاله رفعت الجادرجي رئيس بلدية بغداد أواخر العهد العثماني) مثلما هو على صلة عميقة برموز حداثتها السياسية والفكرية (ابن عم والدته هو السياسي الليبرالي كامل الجادرجي)، عبر لقاء مصالحة بين الخصمين الأبرز في الحياة الأدبية حينذاك: جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي.
وبحسب الأستاذ سليم طه التكريتي (مقالته: الخصومة بين الرصافي والزهاوي) فحقيقة تلك الخصومة بين الرجلين شديدي الاعتداء بالنفس والفكر " لم تكن ناشئة، كما يظن القارئ لأول وهلة، عن اختلاف في العقيدة السياسية التي كان كل من الرصافي والزهاوي يعتنقها، ولا هي منبعثة عن تباين وجهات النظر لديهما عن مستقبل العراق او الامة العربية جمعاء، وانما كان الشعر وحده مبعث تلك الخصومة، والدافع الرئيس اليها إذ كان كل منهما يرى نفسه أحق من الآخر في تقلد زعامة الشعر في العراق وربما إلى أبعد من العراق أيضا".

لا عتاب ولا خطاب!
اللافت أن فصول تلك الخصومة الشعرية والانسانية بعامة تواصلت عبر أمكنة سياسية (أستانبول) وثقافية عبر النشر في المجلات والدوريات الأدبية (القاهرة على نحو خاص) حتى جاءت جلسة الدفتري الشهيرة " ازاء هذا التعنت من الشاعرين سعى بعض الاصدقاء الى الصلح بينهما وكان للاستاذ محمود صبحي الدفتري على رأس القائمين بهذه المأثرة الطيبة إذ وجّه إلى كل من الشاعرين رسالة يدعوه فيها إلى وليمة يقيمها في داره لإعلان الصلح بينهما. وقد أجاب الرصافي على رسالة الدفتري بالموافقة على رسالة بعث بها إليه في اليوم الأول من شهر كانون الأول سنة 1928. واشترط فيها "ان يكون اجتماعنا في داركم العامرة على الوجه الاعتيادي وان لا يكون من الاستاذ الزهاوي ولا مني عتاب ولا خطاب".
واقام الدفتري الوليمة المنشودة في داره التي تحولت إلى حفل أدبي عامر وفيها تصالح الشاعران وتعانقا ثم قام الزهاوي منشداً.
انا بلبل انشودتي اغرودتي
أشدو بها وبراعتي منقاري
لو لم اكن ذا لحية وسدارة
لحسبتني طيرا من الاطيار
جمع الاديب الحر صبحي شلمنا
في داره أكرم بها من دار

لا مدونات ولا "دفتري"!
اليوم، يبدو من العسير أن تهتدي إلى المدونات الأصلية لتلك الوقائع ناهيك عن استحالة العثور على "دفتري"، له صلة بادارة الحكم في بغداد مثلما له صلة بحيويتها الثقافية حتى ممن يديرون الأجهزة الثقافية التي ليس غريباً أنهم من اصول كارهة للمدنية والتحضر، بل أنهم لا يخفون أحقادهم على عناصر الجمال فيها بذريعة انهم ينحدرون من فئات اجتماعية عانت الأهوال وحرمت من مسارات العيش الادمية.
ويبدو هذا البحث، حتى عند كاتب السطور، محاولة يائسة لوقف هذا الانحدار السريع نحو الجاهلية في العراق اليوم ثقافيا وانسانيا، فثمة من يرى (بين الفئات الأعلى صوتا في السلطات الحكومية والاجتماعية المتنفذة) إلى جهد كالذي اندرج فيه شخصياً منذ سنوات في تدوين ما هو غير معلن من الحياة البغدادية اجتماعيا وثقافيا على نحو خاص، بأنه مجرد "حنين لزمن لن يعود"، وكونه عملاً "يفتقر للموضوعية والواقعية"، ليضرب رأي كهذا عرض الحائط بالجهد الذي تعنيه الذاكرة الوطنية التي تنفق من اجلها، المجتمعات والدول الحية، الكثير الكثير مالاً وجهداً، مثلما هو في حقيقته رأي متعسف يريد الإبقاء على المشهد بعلاماته السيئة الحالية، كون اي مقارنة له مع الماضي القريب تعني وصف الراهن بما يستحق: العار التام. وللحديث بقية...



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM