نقد أدبي  



عبدالجبار عباس.. صادق سيتركنا لحفل الأكاذيب الصاخب!

تاريخ النشر       14/12/2021 06:00 AM



علي عبدالأمير عجام*

ببساطة شديدة مات في الحلة قبل أيام الناقد عبد الجبار عباس(1).
بدا جَزعاً تلك الجمعة وإستوحشه البرد كثيراً ... فلطالما كان يتحسس من البرد (مَن ينسى معطفه الشتوي؟)، يخاف الوحدة فيستعجل الألفة ودفء المعشر وحديث المحبة وشجن آخر الليل حين ترتعش الخطى عائدة صوب مدارها المغلق. هذه المرة قرر أن يبحث عن ملجأ دافيء أكثر مما عرف وإشتهى، فذهب إلى أغطية التراب ونام هناك، تخلصاً وإلى الأبد من برد كان يؤذيه كثيراً.
هو ناقد إنطباعي. ظل مخلصاً لهذه الصفة في الوقت الذي أصبح التخلي عنها سمة عبور إلى الحداثة. والإنطباعية عنده، رصينة وأكاديمية و(مضبّطة) كما كان يصفها، وفي تأثيرها المنهجي كتب "السيّاب"، "مرايا على الطريق" و "مرايا جديدة". المرايا في كتبه أكثر من عنونة، هي المرايا الصقيلة في روحه، المرايا العاكسة للإبداع الحقيقي، المرايا المبتهجة بملامح الجمال، والضيقة جداً إزاء قوة القبح. هكذا كانت (إنطباعيته) الشخصية والمؤثرة.



صادق سيتركنا لحفل الأكاذيب الصاخب!
قرأ لنا أكثر من مرة قصيدته في رثاء جاسم الزبيدي. كان يهزأ فيها من الموت الذي إستطاع أن يجندل مُحباً للحياة مثل الزبيدي. كان يطوّح بيديه وتحتقن وجنتاه. ها هو الموت يأخذ مُحباً أخراً للحياة وسيجد عبد الجبار عباس مَن سيكتب في رثائه قصيدة ويطوح بيديه هازئاً من الموت الذي سيلتقيه هو الآخر !!
عبد الجبار عباس المراقب عن بعد لمكامن الأصالة في الكتابة الأدبية وبكل فنونها، كان لا يتردد في تسمية أي نَص بوصف يستحقه حتى وإن لم يطرق سمعه إسم صاحب النَص. فعرفنا له قراءاته النقدية لأسماء شابة في الشعر والقصة فيما تجاهل مَن يستحق ذلك وإن ضجّت بإسمه الأمكنة الثقافية والمؤسسات.
حكايات الرجل كانت فصولاً من علاقته بكل ما هو حي، عينه على إيقاع الشارع فيما رؤاه تمضي عميقاً تبحث عن معنى يأخذك بسرد حكاياته حتى الصغيرة منها، فهو يصف المشهد بطريقة تدخلك حتى في التفاصيل، فيتحول كل شيء إلى طراوة عجيبة، ولأنه هكذا، خزين تجربة حياتية صادقة تعجب لهذا الزهد 
في كل شيء يأتيه ... نزعاته حتى في أقصى فرديتها تظل أسيرة المشهد المعقول لصورة إستطاع بجهد حقيقي أن يرسمها لنفسه. من (حكاية) له كان يرويها قبل أشهر عن ناقد (قردوي) عُرف بجهله المتضخم وقدرته على البروز مع هذه الصفة، عرفتُ ومَن كان معي قريباً منه، ان هذا الرجل الصادق سيبتعد عنا قريباً.
عبد الجبار عباس، إبن مدينة متدفقة، إبن (الحلة) الحقيقي. أهذه ملامحه أم حارات المدينة القديمة؟ أهذه جبهته أم ضفة النهر ومقاهيها التي كانت مسرح أحداث وأفكار؟ أهذه حكاياته أم مشهد المدينة العام وتفصيلاته الحية؟ 
أهذه أحلامه، إنطباعاته وحنينه الذي لا يهدأ الى وقت يريده شخصياً بينه وبين الموسيقى أم تطلعات المدينة الى غد قريب من ملامحها ولكنه ينفتح على أفق أكثر إتساعاً؟
 لك التحية أيها الصادق عبد الجبار عباس. هل نال جسدك ما يكفيه من الدفء الآن؟ هل إرتحت لأغطية التراب؟ هل إنتهى جزعك من البرد وتحسبك الشديد منه؟ 
نَم قانعاً بالدفء ولنا أن نتحسس البردَ وغيابك.

النقد.. رسالة ثقافية(2)
لأن  عبد الجبار عباس ناقد رصين، فلا بد لمن يدرسه من ان يتحرى عوامل الرصانة  في منجزه فينظر في تفاعلها مع بعضها، ولابد من النظر في تجليات تلك الرصانة  من أحكام نقدية وآليات واجراءات نقدية أثمرت تلك الأحكام، وضروري، إن لم  نقل واجب، ان ينظر دارسه فيما وقف عنده الناقد الراحل للبحث في فلسفة  اختياره التي رجّحت الوقوف عند تلك الأعمال بالتعامل النقدي أو بالمناقشة.
ولأن لعبد الجبار عباس اسلوبه في الكتابة.. فما هي مكوناته؟ وكيف تتجلى؟ وأية مصطلحات اعتمدها الناقد؟ وهل وفق في التعبير من خلالها عن مفاهيمه أو فهمه لهذه القضية او تلك؟*
واذ يجهر عبد الجبار عباس بانه ناقد انطباعي، ويكرر حسنات منهجه في أكثر من مناسبة، أفلا يدعونا ذلك لوقفة منهجية؟ واذ نزعم ان في انطباعية عبد الجبار ما يميزها.. فما هو؟ وأين هي من الانطباعية العامة، وأين هي من انطباعية آخرين؟
واذ يتخلل شعاع او أكثر من شمس المنهج الاجتماعي في خيمته الانطباعية، افلا يدعونا للنظر في ارضية ذلك التداخل وهل كان تفاعلاً؟ وكيف؟
 وتساؤلات اخرى... محصلتها ان ثمة الكثير مما يجب عمله في دراسة عبد الجبار عباس ورصانة منجزه النقدي، وهو اكثر مما تستوعبه ورقة لمؤتمرها او حلقة نقاشية. ولذا ارتأينا ان تكون محتويات هذه الدراسة مقدمة تنتقي منه ما تراه يدل عليه.
لقد مارس نقد عبد الجبار دوره الثقافي بأكثر من صورة ووسيلة، ليس كمحصلة نستخلصها نحن بالبحث والتمحيص فحسب، وانما مارسه فعلاً عن قناعة أعلنها في أكثر من مناسبة، إذ يقول في احدى مقالاته عن النقد الأدبي: "مظهر حضاري واداة فعالة في مسيرة التطور الحضاري. والنقاد الكبار كانوا في كل عصر رسل ثقافة واصحاب رؤى". 
لقد اختار عبد الجبار أعمالاً ابداعية في الشعر والقصة، عربية وعراقية، مما رآه قد توفر على شروط فنية وفكرية تؤهلها للامتداد في ساحتنا الثقافية. فان لم تتوفر كلها - من وجهة نظره - يشير إلى ما كان على العمل

 المختار ان ينضجه ابداعياً كي يبلغ رسالته.
اختار اعمالاً حملت، على الاغلب، قضايا فكرية واجتماعية ساخنة فأدار من خلالها حواراً خصباً اتاح ويتيح للمتلقي أن يكسب على صعيدي الفن أو الحرفة الادبية والموقف الاجتماعي معاً، ففي الرواية.. اختار أعمالاً لنجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان وعبد الرحمن منيف وابو المعاطي ابو النجا وعبد الرحمن الربيعي وغيرهم، وفي الشعر.. درس أعمالاً لسعدي يوسف والجواهري وبلند الحيدري وكاظم جواد ونجيب سرور وأمل دنقل.. ناهيك عن دراسته المتميزة عن السياب. وفي القصة القصيرة، اختار اعمالاً ليوسف ادريس وجليل القيسي وغازي العبادي وأحمد خلف وادوار الخراط ويوسف الشاروني وغيرهم.
وفي نقد النقد.. ناقش مؤلفات نقدية مهمة ليوسف الصائغ، ومحسن اطيمش وعبد المحسن طه بدر وعلي عباس علوان وفاضل ثامر وغيرهم. وهي اختيارات أقل ما توصف به انها نوافذ على عوالم لرموز مؤثرة في ابداعنا وثقافتنا العربية.

جماليات النوع الأدبي
في النظر إلى آلياته النقدية أو في تطبيقات منهجه سنجد براعة(3) في كتابة تعنى بتعريف:
* النص ويتم ذلك "بطريقة تسمح للقارئ أن يلّم بقضية العمل المنقود واتجاهاته الاساسية مما يساعده على الخروج من النص النقدي بموقف وفكرة عن العمل المنقود ان لم يحفزانه للعودة اليه، فعلى الاقل قد وفرا له معرفة به".
** جماليات النوع الأدبي، قصةً كان العمل المنقود ام شعراً، لا يكتفي عبد الجبار حين يتناوله بالكشف عن عناصره الابداعية الخاصة، بل لا بد من ان يحيل من خلالها إلى جماليات الجنس الذي ينتمي اليه العمل قياساً على كلاسيكياته، فيضع النص المنقود ضمن شبكة جماليات الجنس او النوع الادبي، ومن خلالها يضعه ضمن المدرسة الفنية التي ينهج النص الابداعي منهجها او حتى لتسود فيه عناصرها. وقد يقارن المبدع بمبدعين آخرين مقارنة فنية، او يقارن عمله الذي هو بصدده باعمال سابقة له للكشف عن التطور او النكوص في مسيرة المبدع الفنية.
زوّدت تلك الاجراءات النقدية المتلقي بخبرة فنية ومعرفة بالتفاعل المتبادل بين المبدع والنص والمحيط. ولو توقفنا عند امثلة من دراساته وما اشتملت عليه من زاد ثقافي، لرأينا كم من القضايا تشتمل عليه نصوصه النقدية، ولكننا هنا نكتفي بالاشارة فقط لبعض تلك الدراسات، كدراسته لسعدي يوسف ”شاعر القصائد المرئية” ودراسته لأقاصيص ابو النجا ودراسته لفن يوسف أدريس القصصي من خلال مجموعة ”لغة الآي آي”، فتلك دراسات تحلل الابداع وتدرس التطور الفكري للمبدع وتصلهما بمجتمعهما. ودراسته لرواية ”ضباب في الظهيرة” لبرهان الخطيب مثل على ذلك.. اذ جاءت درساً في البناء الفني للرواية. ناهيك عن تناولها (أي الدراسة) لظاهرة حماس شباب القصة القصيرة لكتابة رواية (استكمالاً) لمجدهم القصصي!

زاهد وسط الاستعراضات الخادعة!
وكشفت الكاتبة عالية ممدوح عن بعض ملامح ثقافية وانسانية في صورة الراحل عباس (عملت معه في صحيفة "الراصد" الأسبوعية البغدادية) وإن كانت في روايتها "الغلامة" غيرت اسم أبيه إلى علي ولكنها أبقت على اسمه الأول. كل الإشارات تنطق باسمه، شخصيته، مزاجه، رعبه، فرادته بالعزلة والتجول بين مدينتين، الحلة وبغداد، راحلاً بينهما وبين ما يصدر من كتب لها قيمتها عنده.
وفي (مونولوغ) يصف عبد الجبار علي نفسه "أنا نتاج المقاهي والفنادق والحافلات، القطارات الليلية وبعض المكتبات. رحّال فقير مدقع، لا بيت، لا زوجة، ولا حبيبة، ولا مستقر، إلا على ضيم". 
الناقد عبد الجبار عباس زاهد(4) حقيقي في مشهد ثقافي عراقي فيه الكثير من الأكاذيب والإدعاءات والتزوير، و"زهده واضح ليس في حياته ومعيشته وحسب، بل وحتى في اختياراته ونقده ومعارفه، على الأقل في المراحل الأولى من نزوله إلى الساحة الأدبية". بل هو من الصفاء والشجاعة والقوة ما لم يمتكلها نظراؤه ومجايلوه "عندما اخبروه بتخصيص راتب شهري له من وزارة الثقافة، فرفض استلامه بالرغم من حاجته الماسة إليه قائلا إنني لم أقدّم جهداً أو عملا مقابل هذا الراتب، فقد كان يكره العطايا من أي جهة كانت".
ولطالما مثّل الناقد- العالم الدكتور علي جواد الطاهر قيمة عالية ومنارة هادية  عند عبدالجبار عباس لكنه يكشف لنا قصة مهمة عن كيفية تحول الطاهر إلى ناقد كبير بعد أن كان "قبل سفره إلى فرنسا ينكر النقد إنكارا عجيبا"، فخلال درسه العلمي هناك تيقن من أن "النقد مظهر حضاري جليل يتطلب الموهبة والعلم العميق الواسع".
لنلاحظ هنا الانتباهة الذكية من عبدالجبار عباس لتحولات أستاذه، فالاتصال مع الآخر وفق فضاء تنويري، جعل الطاهر يعمل "على نقل ما تعلمه وسعى إلى نهضة ثقافية نقدية".
كانت حياته في مدينته: الحلة (ولد فيها 1941) تبدأ برحلته اليومية من بيته في منطقة "الجمعية"، وهو يقود دراجته الخضراء الأثيرة  التي وصفها الشاعر موفق محمد بأنها "منهكة العجلات"، مرورا بالسوق المسقف ليصل "كازينو أبو سراج"على شط المدينة، ويعود ظهرا إلى داره ليعود عصرا لقضاء مسائه في اتحاد الأدباء أو نقابة المعلمين.
كان يحمل في داخله ألما دفينا لا يستطيع ان يعبر عنه ولا يمكن أن ينسى ذلك مهما حاول أن ينسى وكان نتيجة ذلك أن أصابته نوبة قلبية ودماغية ادخل جراؤها مستشفى مرجان في الحلة وبعد أن رقد ثمانية أيام توفي في الساعة الثامنة إلا ربعا من مساء يوم الخميس 3-12- 1992.
رثاه أستاذه الطاهر "موته فجيعة صاعقة على عارفي فضله ولا يستثنى أحدا من الحزن والدهشة لأمرين متحدين حملتهما الصاعقة: الشباب والنبوغ، فما كان عبد الجبار في عمر الموت المتوقع.. لقد أضاعه قومه في حياته ثم أضاعه الموت، والنقد الأدبي هو الخاسر".

الناقد الحالم؟
إذا كانت الفكرة المتداولة تحيل الناقد إلى شخص دقيق شديد الصرامة فالقاص والكاتب د. عائد خصباك(5) (أحد أكثر أدباء العراق إخلاصا للراحل عباس وأدبه النقدي) يحيلنا إلى نقيض هذه الفكرة حين يورد "كان عبد الجبار عباس مشغولا بـ "كتابة ملاحظات على حاشية ديوان "أفاعي الفردوس" للشاعر  الرومانتيكي ألياس أبو شبكة فأخرجته عن انشغاله أصوات نزلت من الأعالي، عادت الأصوات وتكررت: غاق غاق غاق. هب عبد الجبار الى الشباك فتحه و نظر محاولاً العثور على مصدر الصوت.
تعالى صوت الأطفال و كانوا يلعبون في الزقاق تحت شبّاكه، نادى الأطفال سرب الطيور: "يا غراب يا غراب/ حاج علي غاب... إلخ" فصاح عبد الجبار فرحاً: الطيور المهاجرة عادت من جديد.
ارتدى ملابسه على عجل و ما نسى معطفه الكحلي، نزل الدرجات إلى دراجته و كانت في ركن من ساحة البيت، أخذها فنادته أمه: الى أين؟ قال: أمي، انها الطيور المهاجرة، أما سمعت؟
سأل عبد الجبارالأطفال في الزقاق عن مسارها فأشاروا بأصابعهم الصغيرة الى حيث تابعت طيرانها، نظر فما كان هناك غير شمس العصر، قد خفّ لونها فبرد الجو قليلا.
انطلق عبد الجبار بدراجته، عين على الطريق و بالعين الأخرى فتش في السماء فما عثر على أثر، لكن أصواتها وصلت، غاق غاق غاق، كان الصوت قريبا بعض الشيء.
و عندما لاح له سرب الطيور بعيدا انحنى على المقود أكثر ضاغطا على دواستي الدراجة بما ملك من قوة و عند أطراف المدينة مال سرب الطيور الى اليسار فمال معه مبتعدا عن الشارع الرئيس.
قاد عبد الجبار دراجته على حافات حقول ما وصل اليها من قبل فما لحق بالسرب وبعد دقائق تلاشت الأصوات، تلاشت تدريجيا.
* * *
بعد سنوات عندما عبر سرب الطيور المهاجرة سماء بيته، لبس عبد الجبار معطفه الكحلي و ركب دراجته و تبع نداء قلبه كما فعل ذلك من قبل، و عند أطراف المدينة مال السرب الى اليسار فمال معه، و بما ملك من قوة ضغط بقدميه على الدواستين، تبع السرب و تبعه، في ذلك الوضع أحس عبد الجبار أن جناحين نبتا على جانبيه فخفق بهما مرة و مرتين و أكثر فارتفع، نزع معطفه الكحلي و طوّح به في الهواء ليخف ثقله فاقتربت المسافة بينه و بين نهاية السرب و غاب عن الأنظار أخيرا.
ربما في العام القادم يأتي عبد الجبار مع سرب الطيور المهاجرة، من يدري"!


*جزء من فصل أول ضمن كتابي "أمة في منفى"، "دار الرافدين"بيروت- بغداد 2021 
(1)علي عبد الأمير، مقالة منشورة 21 كانون الأول/ديسمبر 1992 
(2) "النقد.. رسالة ثقافية"، قاسم عبد الأمير عجام دراسة في أدب الناقد عبد الجبار عباس.
(3) "النقد.. رسالة ثقافية"، قاسم عبد الأمير عجام دراسة في أدب الناقد عبد الجبار عباس.
(4) "عبد الجبار عباس.. الناقد الأدبي المتفرد"، كاظم الموسوي.
(5) "لا الطيور عادت، و لا عبد الجبار"، عائد خصباك، مدونات الناقد عبد الجبار عباس


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM