أغنيات في الحرب.. "فريدوم" جورج مايكل في مهب القذائف

تاريخ النشر       17/01/2022 06:00 AM


علي عبدالأمير عجام

إلى ابنتي... 

1
في الأسبوع الثاني من "عاصفة الصحراء" الرهيبة أصبحت أتفاعل مع الظلمة القسرية المفروضة على مرافق الثكنة التي أقضي خدمتي فيها، حيث تمضي خطواتي في عتمة كثيفة فالحروب توطّد ألفة مع الظلام. ها أنا أدخل الملجأ الذي رفضت الدخول اليه حتى اليوم الرابع من بدء الحرب، وها أنا أستخدم وسيلة في الاضاءة سبق أن تركها العراقيون منذ الربع الأول من هذا القرن في مدنهم المهددة بالاجتياح وظلت مستخدمة لفترة طويلة في الريف: واحدة من زجاجات (السفن آب) وقد امتلأت بالنفط وتدلى في وسطها شريط قماشي خرج من فتحتها العلوية التي اغلقت بواسطة حبة تمر. أخذت معي بعض أوراق الواجب العسكري وأخرى فارغة لكتابة بعض السطور دون أن أنسى الراديو طبعاً!
خرجت في الصباح بعدة سعلات قوية وببلغم مغطى بلون سخام أسود (يشبه الحرب إلى حد بعيد) كان ينبعث من الفانوس العراقي. هاهو يجعلنا نقضي أيامنا أحياء في التراب مثلما بيوتنا إلى فراغ العتمة ووحشة الظلام! لمَ كل هذا مرّة اخرى؟ سحقني السؤال لتأتي إليّ البلاد يأخذها الرعب التام مما دفعت إليه من حرب قذرة.
ليلتي الأولى في الملجأ حاولت أن أجعلها أكثر هدوءاً وأقل رعباً، فاستعنت لمؤانستي بكتاب بالانجليزية حمل عنوان "آيدنتتي" أو الهوية، وفيه كتابة غرائبية بالصور ومقاربة بين مقاطع من شعر إليوت، أودن وفيليب لاركن وكولاج تعبيري في الصور- ولم أرفع عيني عن صفحاته إا حين إشتد القصف الجوي ودكت القذائف منطقة القاعدة الجوية القريبة منا  – تحسست ذلك من التراب والرمل الذي إنهال علينا في الملجأ- أضحك على مضض حين يخبرني صديقي الذي يقاسمني الملجأ متسائلاً: هل تتوقع ان هذا الملجأ سوف لن يردم أجسادنا فيما لو سقطت قربنا قذيفة او صاروخ؟


 

2
في الصباح نهضت بمزاج رائق عجيب وكأنني أخرج إلى الحياة مجدداً، كنت أردد مع ما تبثه الفترة الصباحية  في إذاعة "مونت كارلو"، فثمة أغنية لكاظم الساهر هي من ألطف بداياته "سنين وياك متغرب" بلحنها الهادىء الجميل وأشواقها النظيفة. مزاج دفعني إلى أن أحلق وجهي وغسل شعري، مزيلاً عنه ما تعلق به من ذرات الرمل الناعمة.
في الضحى غيم في الافق وجوّ بارد رطب. جاء صوت عبد الحليم حافظ بشجنه وعذوبة لحن أغنيته "انا لك على طول".. رقّة متناهية وتصوير لمشاعر لا تتوافق والملاجئ، رمالها، ونيران الطائرات الهادرة، مثل هدير اندلع في روحي مع إيقاع أغنية "فريدوم" للوسيم جورج مايكل الذي كنت أول من قدّمه في الصحافية العراقية عبر مجلة "فنون" مع صورة ملونة جميلة له، لم أتوقع أنها ستكون ذات تأثير واسع وتحديداً على فتيات الجامعة ببغداد حين وصلتني عشرات الرسائل تطلب المزيد من صوره وترجمة كلمات أغنياته، لكن أي حرية (فريدوم) أيها المغني الجميل ونحن نحترق الآن بنيرانها؟ أي إيقاع تأتي به أغنيتك يضاهي إيقاعات القذائف الهادرة.  
هنا أنتبهت لنفسي، لشياطين رغباتها وأكاد اصرخ: أين أنا من هذه الاستعادات والتأويلات "البطرانة" جداً بينما احتمال الموت يطلع إلينا كل لحظة! 
من الأغاني التي يواصل الراديو بثها فتنهال عليّ بسيل مشاعر لا يتوقف، إلى صوت المذيعة "هيام" الأثير مرة أخرى، صوتها الذي يقلل دائما وحشتي في الخنادق وظلام الثكنات، منذ أن عرفته أول مرة في بدء خدمتي العسكرية 1979، ليرافقني مع كل أهوال المعارك في حربنا الأولى، وها هي تعود إلى مهمتها في ترميم الأشواق المتكسرة في حربنا الجديدة لتقول: هل لكم برسائل تبعثون بها لذويكم عبر الاثير؟ ولكن ماذا نقول نحن الذين هجّرتهم ونفتهم حروب الخليج! 
هيام تقلل من آثام الدفء الانثوي في صوتها وتقلل من وحشتي حين تقدم فيروز في أغنية "طلع لي البكي". الاغنيات ثانية توخز إنسانيتي التي تشتعل في أقصى دمارها، قد أموت الان، بعد لحظة، بعد أيام. مرة أخرى تفجّر الأغنيات آمالا في ذاكرتي وتحيلها صدى إنفجار بعيد. 
و"يطلع لي البكاء" مثل فانوس عراقي يملأ أنفاسي بسخام الحزن.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM