نقد أدبي  



محمود درويش في "أحد عشر كوكبا".. الواقع بوصفه حكاية تاريخية

تاريخ النشر       23/01/2023 06:00 AM



علي عبدالأمير*

 نحن بصدد قراءة نقدية وفحص لشعرية نص، ولكن هذا لا يمكن فصله عن اعتبارين، بل لا يمكن لنا أن نقرأ نصوص محمود درويش الجديدة "أحد عشي كوكبا- ‏ دار الجديد بيروت ‎1992‏ ط ‎١" دون أن تسقط قراءتنا في حيثيات واقعة تاريخية شكّلت منعطقاً حاسماً فتاريخ الفكرة والقضية والمعنى والوجود.


قرأنا المجموعة بعد اتفاق (غزة- ‏أريحا) ومحمود درويش في عمله الشعري الجديد يسرب إلينا احتمالات وقائع كهذه، بل يؤكد عليها في اكثر من مكان في متن النصوص. ترى هل من البساطة القول: انه يقترب هنا من روح التنبؤ أم هي استقراءات القادم من كل شيء؟
لكننا على معرفة بمحمود درويش، الفكرة، السيرة، الانضواءات السياسية والمهمات، فنقول: انه كان على مقربة من الحدث بل هو من صنّاع الحدث وبحدسه الروحي كشاعر كان يمضي بالملامج الاولية إلى تفصيلات يراها قادمة وهي كذلك قعلاً. أما الاعتبار الثاني، هو في خصوصية وفرادة الشعر الفلسطيني المعاصر فانك قد تقرأ لشعراء عرب بل من خارج منطقتنا وضمن أدوات فحص نقدي محددة ‏ بل ضمن مناهج نقدية محددة وفق منظومة اشتغال فنية خالصة. ولكن ذلك يبدو عسيراً مع الشعر الفلسطيني المعاصر فهو المأخوذ بجوانب قضيته الاجتماعية ‏السياسية التي ما انفكت ترحّل تفصيلاتها وتسقط وقائعها على نسيج العمل الشعري.
محمود درو يش يحدثنا عن (غزة- أريحا) مبكرة فيرسم لنا ملامح تراجع حاسم، بل هو حين يختار الاندلس وآخر أيام العرب فيها تحديداً انما يختار ذات الفكرة المشتغلة على الواقع سياسياً واجتماعياً الان. انه يجعل الواقع (اندلساً) وهي تشهد انكفاء زمنها العريي:
فادخلوها لنخرج منها تماماً، وعما قليل سنبحث عما
كان تاريخنا حول تاريخكم في البلاد البعيدة
وسنسال انفسنا في النهاية: هل كانت الأندلس 
النهاية : هل كانت الاندلس 
ههنا أم هناك؟ 
على الأرض أم في القصيدة  
وضمن أجواء قاتمة كهذه تعمّق البنية الايقاعية في لغة النص الشعري عند محمود درويش، الاحساس المتفاقم بالألم  بأقسى الغربة:
سوف أخرج من كل جلدي
ومن لغتي سوف يهبط بعض الكلام عن الحب 
وسأخرج من
شجر اللوز قطنا على زبد البحر 


لمسة الغنائية الخفيفة هنا تتعمق برؤى من مكونات تاريخية تم ترحيلها إلى وقائع اليوم أي إسقاط
تاريخية الانكفاء العربي في الأندلس على انكفاء يعيشه العربي الآن:
لم نعد قادرين على اليأس اكثر مما يئسنا  
 انه يسمي وقائع تاريخية من حكاية النفوذ الأخير للعربي هناك فيورد: (معاهدة للصلح)، (حصار)، ( ملك)، (وزير) ولنجد ازاء كل ذلك معادلات موضوعية:
الملك -ملك احتضار، ملك انتظار
الوزير - وزير السلام، وزير يسلم مفاتيح فردوس
اسبان - آخرون قادمون راياتهم فوق الاسوار سترتفع
ديانة اخرى -أجراسهم ستدق لرحلة كارثية سيمضي إليها العرب
من هذه الايماءات يلعب درويش على وقائع قائمة، بل انه يسأل: "لماذا تطيل التفاوض"؟ ويردينا الى هاوية سحيقة تنفتح عليها أيام الواقع الفلسطيني – العربي: "إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار"
نعم البنية ‏الايقاعية تشكل اسناداً قوياً للندب والقسوة في نص محمود درويش،  خذ مثلاً سلاسة لغة كهذه :
"خائفاً من غموض النهار على مرمر الدار 
من عتمة الشمس في الورد
من ماء نافورتي 
خائفاً من حليب على شفة التين 
من لغتي 
هو يسند القسوة، القلق، الفوضى، النكبة فالخسارة. هذا الرسم للثورة بوصفها شخصية محاطة برفض شعري :
"خائفا من مروري على عالم
لم يعد عالمي"
بل هو يحاول ان يرسم مثفذه الشخصي بعيدا عن الجماعي المصير، هو يبدو متلذذاً بخسارته لما
وعاه . يمضي تاركا في نسيج الكلام حكمته الأثيرة: 
كنت أمشي إلى الذات في الآخرين 
وها انذا اخسر الذات والآخرين 
ومرة تلو مرة، يأخذ الشاعر متلقيه الى جوانب المشهد الاندلسي في لعبة (ايهام) متقنة . بل هو يغني
لهذا المتلقي، يغني ألمه وياسه وضمن شكل شعري ساد في الاندلس، بل ضمن شكل الموشحات إن شئت:
والكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين الى الاندلس 
الكمنجات تبكي على العرب الخارجين من الاندلس 
ولكنه يفقد حدود المهارة في لعبة (الايهام) ان تأخذ منه ما يحيلك إلى وقائع معيوشة اليوم:
الكمنجات تبكي على وطن ضائع قد يعود 
هنا تلتقي محمود درويش في "أحد عشر كوكباً" القصيدة وضمن عنواناتها الفرعية الاحد عشر وهو يدوّن منعطفاً حاسماً في فكرته التي اندرج في تفصيلاتها، في قضيته، في لغته، في منافيه، في الذي تبقى لديه من ملامح لشكل الوطن، لشكل الغياب، للحياة إذ تتشكل سريعة كان الموت يلاحقها بقوة، أو الحياة أن تتهرأ في دولاب تحولات لايهدأ.
و محمود درويش نسج من الملحمة الفلسطينية نسيجاً لملحمة شعرية، سمها ان شئت شخصية، فيها جرس مفردته الخاصة  فيها عذوبة ما انفرد به ووحشة الأجواء أيضاً. قيها كل العناية باعلاء الشخصي، لكنه المتماثل مع فكرة لم تزل تشتغل في الوعي الجماعي وتنتج منظومة علاقات وافكار متقاطعة.
إن عمل محمود درويش الشعري هذا يندرج في اعلاء شان الألم الفلسطيني ورفعه مقدساً إلى مرتبة الملحمة، وهي ان لم تتحققٌ كنتيجة في وقائع توازي ماتم تسجيله من آلام جماعية وفردانية، فليكن للكتابة شغلها ايضاً في عملية كهذه وعند الشاعر من رؤيا ما يكفي لإعلاء مهمة كهذه. ودرويش دفع منذ مدة أعمالاً سابقة "مأساة الفضة ملهاة النرجس " بالالم الفلسطيني نحو أبعاد ملحمية وهذه المرة يمضي في المهمة ذاتها.

*المقالة نشرت في صحيفة "العراق" البغدادية 1992. 


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM