مقالات  



رسالة ليست متأخرة إلى إبتسام

تاريخ النشر       10/07/2023 06:00 AM



علي عبدالأمير عجام

1
كنت مسافراً من القاهرة عام 2002 ضمن وفد المجمع العربي للموسيقى إلى الجزائر حيث سيعقد مؤتمر المجمع ومهرجانه. في الطائرة الجزائرية كان هناك الوفد الموسيقي العراقي برئاسة الملحن والمؤلف الأستاذ علي عبدالله، الذي كان يتجنبي جهد الإمكان، وهو أمرٌ كنت أراه طبيعياً فأنا كنت مواظباً على معارضة الحكم الذي يمثله الرجل، لكنه بات لاحقاً يتعامل معي بلطف كونني صديقه القديم القديم، حيث تشاركنا الصف الأول الابتدائي في مدينة المسيب 1961.
كنت مع إقلاع الطائرة أواصل قراءة كتابك الذي كنت حملته معي من بيتي في عمّان بعد أيام من وصوله إليّ من بغداد حيث صدر حديثاً، وكان الأستاذ علي يمر من أمام مقعدي فتوقف عند الكتاب عنواناً وغلافا وقال: "تقرأ وأنت على سفر رواية ابتسام عبدالله الجديدة، هذا سيسرها كثيراً بعد أن أخبرها بذلك".
نعم، كنت منشغلاً باستمتاع بالغ في روايتك "ميسوبوتاميا" التي وقعت عندي موقعاً حانياً يعادل أشواقي للبلاد وعمقها الحضاري مثلما هو شوقي لبغداد المدينة الأنثى المهذبة وكنت أجد فيك بعضا من روحها وتمثيلاً لها. دفعتني جملة الأستاذ عبدالله على اشراكه في قراءة الجزء الأخير من يومياتي عن حرب 1991 ومآسيها المروّعة ونشرتها في العدد الجديد حينها من مجلة "المسلة" الثقافية الفصلية التي كنت أتولى رئاسة تحريرها بين عمّان ولندن. 
أستغرق الصديق القديم (تجددت في تلك الرحلة بعض الثقة المشتركة بفضل منكِ) في قراءة نصي الطويل مثلما استغرقت أنا في قراءة روايتك أيتها السيدة المثقفة الأنيقة المهذبة حتى اعلان قائد الطيارة قرب وصولنا إلى مطار هواري بومدين وأنا أوشك على الانتهاء من الرواية وهو ما تم بعد وقت قصير من وصولنا إلى فندق شيراتون الجزائر. 


الأديبة والصحافية الراحلة إ|بتسام عبدالله 

2

بعد نحو اسبوع من دخول القوات الأميركية إلى بغداد.. كنت قد وصلت المدينة التي علّمتني وهذّبتني متوهماً أن مشواراً جديداً من حياة كريمة عامرة تستحقها سيبدأ بعد نهاية الرعب الذي ظل ممسكاً برقبتها حد الموت (أعرف تماماً أنكِ لا توافقينني الرأي ولا الوصف وذرائعه). ومن بين ما انشغلت به هو استعادة اللقاءات مع أصدقاء عاشوا سنوات الجمر وظلوا على قيد الانتظار والأمل، أولهم الصديق الذي تعرفين الفنان مقداد عبدالرضا في شقته التي لطالما ضمتني إليه وعائلته في مشاوير رحمة ومودّة عالية، ثم بيت صديق العمر ابراهيم الموسوي وهو بيت الثقة والأشواق والسعادات القصيرة المنتزعة قلب الوحش الرهيب، وحش الحروب الرهيب، ومن ثم بيت شقيقتي بلقيس وصولاً إلى ليلة فريدة ندية في منزل على شاطىء دجلة الساحر مع صديقين مشتركين بيننا، الشاعرة ريم قيس كبة وزوجها المهندس صادق الطائي الذي أبلغني بعد فترة قصيرة  برغبتك ورفيق حياتك الأستاذ أمير الحلو بلقاء يجمعنا (يبدو أن دعوتكما كانت تتصل بمشاعر العرفان لما حمله الأستاذ علي عبدالله من مشاعر اعتزازي بأدبك عبر روايتك ميسوبوتاميا التي كتبت عنها لاحقاً عرضاً وافياً في صحيفة "الحياة" اللندنية) لقاء جاء في ظرف بدا وكأنه نهبٌ للفوضى والمشقة والصمت الثقيل الذي يعقب العاصفة، عاصفة الغبار والدم والخراب. مع هذا أسرني جو بغدادي حميم في بيتكما هو ما كنت أتشوق له حدّ العذاب، لكنني لم أنس أبداً جملتك المدوية التي بدت لي صادمة بقوة: "لن أخرج إلى شوارع بغداد والدبابات الأميركية تجوبها". 

3
يبدو أن قراركِ تواصل حتى العام 2011 حين التقيتك مرة أخرى في غرفة صغيرة إلى جانب غرفتي الأستاذين علي حسين وعلاء المفرجي في قاعة تحرير "المدى" وقبلتي على رأسك التي أصابتك بشيء من الارتباك. لقد كان حديثنا مقتضباً كفنجان القهوة الذي ارتشفته بسرعة على أمل لقاءات جديدة (لم تتم للأسف) وقتها كان الأميركيون انسحبوا من المدن العراقية استعداداً للانسحاب التام من البلاد. 
كنت سعيداً بعودتك إلى الكتابة والترجمة حيث ورشتك المدهشة العوالم التي توقفت عندها أول مرة عبر صفحات مجلة "ألف باء" ثم عبر "الجمهورية" حين اقتطعت كتابتك عن السيدة فيروز ورحلتها البغدادية الفريدة (لم أزل أحتفظ بها في أوراقي القديمة الحميمة) وكم بدت صورتك ممثلة لملامح المرأة البغدادية الأنيقة المثقفة المهذبة وأنت تحثين الخطى إلى جانبها صحبة مديرة أعمالها وشقيقتها هدى. وزادت معرفتي بفنك الرفيع في الترجمة، وتحديداً في ترجمة مذكرات انجيلا ديفز (التقيت بها في مقهى الليبراليين "شعراء وجرسونات" بواشنطن الذي يمتكله أنس شلال ابن دبلوماسي عراقي وصار مرشحاً لاحقا لمنصب عمدة العاصمة الأميركية، وأخبرتها انني قرأت مذكراتها الصاخبة الأثر والعميقة كجروح بالعربية عبر ترجمتك الجميلة وأبهجها أنني بذلك كنتُ واحداً من أجيال عربية عرفت الكثير والمختلف عن الحرية عبر كتابها الجميل ذاك). 

4
يقال يا سيدتي عن الراحلين من أصحاب الأثر الانساني والفكري، انهم خالدون من نوع ما، وهو ما يصحّ على رحيلك الذي كان متسقاً مع هدوء تام تزامن مع سنواتك الأخيرة، لا سيما بعد رحيل شريك حياتك الأستاذ أمير الحلو، "هدوء" جاء طبيعياً مع "صخب" الابتذال وقسوة البشاعة التي تمضي إليها المدينة التي نحب وكانت، ذات يوم، عيون أهلها من أبناء الطبقة المتوسطة ترنو إليك في إطلالتك التلفزيونية مع أعلام البلاد ونخبة مفكريها كي تتعلم الاناقة المحتشمة في المظهر والزينة، والأدب الجم في الحوار الذي كان يقطّر بتقديمك وأسئلتك ومداخلاتك لطفاً وحسنَ معرفةٍ تزيدها نبرة الصوت الأنثوي رقّةً وعذوبة في محاكاة برمزية عالية لمدينة انتهت اليوم فريسةً لكائنات التوحش والابتذال. 







 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM