مقالات  



وسائل الإتصال المعاصرة.. ما الذي فعلته بالشعر؟

تاريخ النشر       10/02/2024 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام*

    حقيقة ثابتة، باتت تلك التغييرات التي أصابت الأنشطة الإبداعية كلها، حيث إستطاعت المنجزات العلمية بتقنيتها العالية والدهشة التي تحققها أن تتحول من خيالات ومرئيات بعيدة الى ملموسات يتداولها الإنسان بشكل طبيعي ومبسط. وإزاء إجرائية كهذه تنازلت العديد من أنشطة الإبداع عن فخامة وجلالة كانت تحيط نفسها بهالتها، فلم يعد الكتاب – على سحره الخاص، سبيلاً وحيداً لإيصال المعلومات المعرفية، ولم تعد الفنون المسرحية هي الوحيدة المؤثرة في الفن المشهدي، فثمة حيز فعّال للصورة الحية المصنوعة بعناية عبر (السينما، التلفزة، تقنيات الفيديو والمؤثرات المدهشة للحاسوب الشخصي في تشكيل الصورة ومنحها المجسمات والأبعاد)، حتى الموسيقى تنازلت عن نمطها الأوركسترالي الصارم، فجربّت النتاجات الموسيقية إستخدام الحاسوب في التأليف الموسيقي أو عزف مقطوعة موسيقية كاملة إعتماداً على آلة واحدة فقط هي الـ (KEYBOARD)، مع قدرتها على منحها المتلقي متعة الإستماع الى فرقة أوركسترالية كاملة.

 ما الذي ظل لإرتعاشة الخلق الشفافة وذات الحيوية (البدائية) المحببة؟ ما الذي ظل لأكثر الأنماط الإبداعية فردية، ألا وهو الشعر؟ لا جدال في أكثر من وسط ثقافي على ندرة من يتعاطى الشعر قراءة وتلقِّياً، وفي فرنسا مثلاً لم يعُد النثر يعني عند دور النشر عملية مؤثرة في إنتاجها للكتاب وهم هناك لا يجادلون في تحول الشعر الى نمط كتابي نخبوي للغاية! لا بل إن البعض من نقّاد الأدب لا يتردد في إضفاء بعض من صفة التخلف على الشعر كونه إتجاهاً توصيلياً قديماُ! أين الحساسية المذهلة في الكلمة؟ أين إرتعاشاتها في النفوس؟ أهي وسائل الإتصال المعاصرة (سمعية ومرئية) فعلت بالشعر كل هذا؟

     وفي هذا الحيز أقول في باب الإجابة على لائحة من التساؤلات، نعم ولا، فالإتصال المعاصر بوسائله وتقنياته التي أحالت العالم الى قرية صغيرة – حسب مارشال ماكلوهان – إستكمل شَرطه العلمي وثبّت أسس علاقته العقلانية وبات يشكل الركيز الأساسي في حياة بني البشر، فنشط في الإيضاح والإعلان والكشف أيضاً وذلك يسجل تأثيره في تضييق المساحة التي بقيت لفنون الكتابة الإبداعية المحضة والشعرية منها بالتحديد، غير أن هذا التأثير أسدى للشعر خدمة جليلة، فأخذ منه كل (الأغراض) التي أُسْندت للشعر جزافاً، كإندراجه في التعبير الساذج عن المناسبة وتحوله الى منبرية دعائية فجة، ودفعته عن التخلي تماماً عن تلك المهمات الثقيلة وغير (الشعرية).

     هكذا أرى أن الشعر ضمن تأثيرات وسائل الإتصال المعاصرة عليه، قد مضى في سبيل تطوير كائناته المثيرة للجدل دائماً, كونه يظل يمثل الجوهر الإنساني بأعمق صوره. إن تقديم (الروبوت) مهماته التلقينية شعراً، لن تقترب – على الرغم من كل الفجيعة التي تتمثل في الشعر الإليكتروني – من إنجاز قصيدة تسجل للإنسان، لا إغترابه عن الوقائع فحسب، بل قيمته المؤثرة كشاهد ومنجز لكل ما حصل "ما الذي يجعل للكلمات المجردة ذلك التأثير الجسدي المحزن حتى وإن كان المقطع الشعري مرحاً بهيجاً؟ كل ما أستطيع قوله هو، لكونه من الشعر ... ويجد طريقه الى شيء ما، غامض كامن في الجبلة الإنسانية، شيء أكثر قُدُماً من التأسيس الحالي للطبيعة البشرية" كما في مقالة جيمس ريفز: "الشعر بوصفه مدهشاً ". 

هكذا أرى التأثير وهكذا تتوضّح الـ (لا) التي أشرت إليها قبل هذا، فالشعرية إذ تتشكل هذه المرة بكثافة العودة إلى الداخل، إلى المنبع الشعري الحقيقي، إلى جوهر الدهشة التي تمثلها، نازعة عنها كل الأردية التي ألقيتْ على جيدها وإنتظرت حتى بدايات القرن الحالي كي تنزعها بعيداً، فهي وجدت قيمتها وجدواها التعبيرية بالعودة الى المكنون والمخبوء والجوهري والسري والشخصي، ومن عناصرها السحرية إستطاعت أن تمد حتى الفنون الإتصالية، فكم من عمل مشهدي نُفذ إعتماداً على جوهر الشعر – بل أن أجناساً إبداعية أخرى ظلت تأخذ من الشعر حدسه وإستقراءه الواسع والدقيق والغني بالتفاصيل أيضاً، الشعر، هذا الكائن الملوّح بسمرة لافحة وغبار الرحيل عبر المسافة الأبدية وأصابعه الطرية من ندى الفجر البارد ... الشعر يبدو حزيناً جداً لقلة مناصريه، نعم, ولكنه مطمئن على رحلته، فهناك من يأتي إليه بإنطباعات عميقة وروحية عبقة، بينهما (إتصال) حر وفسيح، ويصبح بالتالي صديقاً لمن يكون "مسكوناً بحس البراءة المفتقدة والمسرات التلقائية".

     الشعر سيبقى رغم كل شيء والإتصال المعاصر أفاده كثيراً حين جعله مُبتكراً لأسراره العميقة ومُتيحاً له الفرصة لكشفها وبإبهاره، ليس لغرابته وشذوذه، بل بتجاوزه المُرهف للمألوف، إنه سيأتي طبيعياً كما تظهر أوراق الشجر، وكائناً من يكون المتلقي فهو الذي يصادق الكلمة وهي دليله للخروج أيضاً، أفلا يكفي كل هذا الركام من عوامل العناء والضغوطات؟ والشعر يجد متلقيه عبر هذه المداخلة، والشاعر المعاصر تحدق به أخطار كبيرة ومنزلقات فهم عدة، أعظمها ندرة التلقي، وتظل ضمانة وجوده كمؤثر هي إحتفاظه بطراوة فكره التي تمنحه القدرة على إدهاش القاريء وإقناعه أيضاً من أن" المرء لا يحتاج أن يكون غرفة كي يصبح مسكوناً".




* نشرت في صحيفة "القدس العربي" اللندنية.. الأربعاء 13 تشرين الثاني 1996




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM