"أركسترة" الألحان والأغاني الشعبية

تاريخ النشر       11/06/2025 06:00 AM


علي عبدالأمير عجام

مع بعض المحاولات الفردية التي تظهر بين فترة واخرى في كتابة الموسيقى في بعض الدول العربية، كنت أتساءل: متى تكون لنا موسيقى مجردة أو موسيقى بحتة والتي هي بالأساس – الموسيقى التي لا تصاحبها الكلمات؟ 
وأعادني السؤال إلى ما تتطلبه الكتابة الموسيقية من مواكبة علمية دقيقة، وقبلها طبعا الموهبة المتميزة القادرة بصاحبها على جعله يكتب موسيقاه وفق لغة سبق له أن درسها وعرف نظامها الدقيق.
وغياب "الموسيقى البحتة" في موسيقانا العراقية ليس وقفا علينا، فهو سمة لموسيقانا العربية تقريبا، وذلك على ما اعتقد يعود لأصل عبارة "كتابة الموسيقى "، فهو يدلل على مرجعية غربية، ويحيلنا على عجل إلى الموسيقى السمفونية والتي هي احد اشكال الموسيقى البحتة. 
الأوركسترا في الموسيقى العربية كنوع من تقديم الألحان هو الذي سيطر لفترة سبعة عقود أو يزيد، على معظم ما يكتب في الموسيقى العربية والذي اعتمد استعارة عناصر الموسيقى الغربية، و (إلصاقها) على اصول الغناء والموسيقى العربية، فهناك استخدام الآلات الموسيقية الغربية بكثرة غير عادية، وتضخيم حجم الفرقة الموسيقية. وإذا اضفنا إلى ذلك الاستعانة التي تتم بالآلات الغربية المتطورة تقنيا وبكثرة في الأعمال الموسيقية العربية، لتعرفنا على (هجين ) من الألحان. هذا الاتجاه دخل لأول مرة مع الأغنية المصرية باسمائها الكبيرة المعروفة ثم امتد ليشمل بتأثيره أغلب الدول العربية. 
لكن علاقة الأوركسترا كشكل موسيقي غربي مع "معالجة" الألحان المعروفة عراقياً، والتي تحمل معها سمات ذائقة شعبية غنية وخصبة، وفق تقنيات التأليف الموسيقي ( الهارموني)، بدأت مبكراً مع مرحلة تأسيس "جماعة بغداد الفيلهارمونية" التي صارت لاحقاً "الفرقة السيمفونية الوطنية"، وترك فيها عازفون ومؤلفون بصماتهم في هذا الاتجاه، حين صارت الألحان الغنائية البغدادية على وجه التحديد مادة لموسيقى مجردة تدفع باللحن الأصلي نحو مديات تاثير أوسع، حدّ أن تلك الألحان كان تقدم الموسيقى العراقية بطريقة رفيعة يمكن للآخر (المتلقي الأجنبي) أن يجد فيها متعة روحية خالصة.
مع هذا الملمح المهم هناك من حمل على هذا الاتجاه ووصم تلك الألحان (الشعبية الشرقية بقالب غربي) بكونها غيرت فعليا في سمات النغم الأصلي وتاثيراته الشعورية، وحوّلتها إلى نتاج غير محدد الملامح، إذ أبعدتها عن عصرها وايقاعها الذي حملته كسمة لمرحلة ما من التطور الاجتماعي.
قبل أيام خصني المايسترو والمؤلف والعازف، الأستاذ علي خصاف، بنماذج من عمله المتصل بسياق ما أنجزه سابقون من أعلام الموسيقى الرفيعة في العراق، أي "أركسترة الألحان والأغاني الشعبية". لقد وجدت في تلك النماذج جهداً يستحق التقدير والثناء، فثمة عناية لافتة بالتوزيع، وقدرة على دفع الألحان الأصلية نحو مستويات تعبيرية عميقة وواسعة. 

الأستاذ علي خصاف


لقد شعرت بتوجس وأنا ابدأ بالنقر على رابط مقطوعة "دربيل" المقامة على الأصلي الغنائي الذي اعادت تقديمه المطربة الراحلة عفيفة اسكندر وحقق شهرة واسعة في سبعينيات القرن الماضي، فاللحن ايقاعي ثقيل لايخلو من فظاظة، لكن المفاجأة جاءت من عمل الأستاذ خصاف حين نقل الأصل من ثقله الايقاعي وبساطة كلمات الأغنية إلى مستوى تعبيري جميل يناسب الأوركسترا.. المهم انه خفف الايقاع وجعله منساباً أقرب إلى الهدوء التأملي لاسيما في المقدمة الناجحة للغاية.
وفي عمل آخر مقام على لحن "مركب هوانا" الذي أبدعه الراحل الكبير رضا علي اعتمادا على نص الشاعر الغنائي جودت التميمي، جاء بمقدمة غلبت عليها السرعة وتدافع ألات كثيرة، بينما كان الأولى بالأستاذ علي خصاف أن يقلل الآلات ويعتمد في مقدمة العمل على الوتريات بدون النحاسيات والطبول، كي يكون النغم بسرعة تميل الى البطء كما هي سرعة المركب أو سرعة العمل الغنائي الأصلي الذي يتصل بمسعى جميل له علاقة بنقل العاطفة من اطارها الضيق (قصص الحب والفراق والعذاب) إلى مديات شعورية أوسع قد تكون متعلقة بالأمكنة والمعاني الانسانية.
لكن أشد ما توقفت عنده وأعجبني غاية الاعجاب هو عمل السيد خصاف المقام على أغنية المطربة الرقيقة أمل خضير "أحاول أنسى حبك" بلحن المقتدر محمد عبدالمحسن، فقد جاء منسجماً ايما انسجام بين النغم الأصلي وقدرة الأوركسترا السيمفوني على بناء طبقات نغمية وشعورية لايمكن التعرف عليها في الأغنية. ياه كم كانت الوتريات رقيقة حانية وكذلك الهوائيات التي تنقل المشاعر الشجبة بأصدق مايكون.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM