مقالات  



تتخضب الشجرة بدم الجندي فتموت

تاريخ النشر       11/06/2025 06:00 AM


عن حرب عامر عجاج.. عن الأمل القتيل

علي عبدالأمير عجام
كل حرب، أي حرب، تصبح للجندي حربه الشخصية، فهي صراعه من أجل حياة انتزع منها قسراً. من هنا تبدو مذكرات الجندي الاحتياط (الموظف الحكومي) عامر عجاج، عن الحرب العراقية الايرانية ( في عامها الأول كما في مدونته) حربه الشخصية لاسيما أنه جاء اليها بوعي انسان يجد مسرات في الكتاب والغناء الجميل، عينه تلتقط الأمكنة ونباتاتها بل كل حيواتها، وبحسب ذخيرة كهذا تتولد فيه قدرة جبارة على الاحتمال والتكيف والصبر والجلد. 
هل كان هذا يعني توافقه مع الحرب وتفاصيلها التي تبدأ من الطلقة وصولاً إلى مشهد جندي قتيل؟ لا على الإطلاق ففي كل مفارقة يوردها أكانت تتعلق بالبشر أم المكان ثمة نقد عميق للحرب ومشعلي نيرانها "الأشاوس"، في كل تذكر للأهل والأحبة البعيدين ثمة رفض للاغتراب الذي تعنيه المسافة بين اليقظة الاجبارية القاسية في الخنادق والنوم بآمان مطلق في بيت العائلة.
يكفي في الالتقاطات المدهشة التي تتضمنها مذكرات الأخ الأستاذ عامر عجاج أن اخترت واحدة منها عنواناً لكلمتي هذه في المؤازرة والتحية والثناء، فهو يورد " تحدث أحد الجنود مؤشراً على شجرة زعرور ميتة على طريق الصعود قال: لقد هوجم هنا جندي وسُلبتْ بُندقيته قبل مدة فتخضبت الشجرة بدمه ثم ماتت". أي صدق هنا في المسار الذي تعنيه الحرب؟ أي اختزال للمرادف الذي تعنيه الحرب، اي موت؟ وأي شعور موحش وحزين بالفقد بل الفناء؟
وعن كل هذا التلمس العميق للحرب أكان في شكل المفارقات " أخذت معي كتاب (تكنولوجيا السلوك الإنساني) وقرأت بحدود 55 صفحة منه، رجعت في الساعة 1:00 ظهراً أكلت قصعة، كانت نصف تعيين لكنني أحسست بطيب طعمها لأني كنت جائعاً"؛ أم في وسائله الروحية لدرأ رعب الموت الذي يطرق أبواب الروح والجسد، عبر التغني بالظواهر الجمالية للمكان (كردستان العراق بالقرب من الحدود مع إيران) وأشكال الحياة على مدياتها، إذ يرسم صوراً مدهشة: "تأمل الطريق والقرى الكردية المتناثرة في البعد على السفوح، قطعان الخيل التي تتجول والتي لم أر مثلها سابقاً، والرعاة الذين يسيرون بطريقة يبدون فيها وكأنهم غير مبالين بقطعانهم التي تسير على الأرض الفسيحة"، عبر كل هذا التنوع المدهش في المشاعر والايقاعات الحياتية كان الأخ عجاج يزود نفسه بطاقة على مواجهة رعب الحرب ونذيرها المخيف.


لقد بنى هذا الجندي أشكال مقاومته للحرب بكل ما يتصل بالجوهر الانساني، فالحرب تنتصر على الحياة حين يصبح المندرجون في الحرب متوافقين مع ايقاعها الوحشي، بينما ظل عامر عجاج رافعا راية مقاومته، صحيح انه كان فردأ ولكن الوجود البشري ووعي ذلك الوجود يظل مقترنا بالانسان الفرد لا الجماعة الأقرب إلى مفهوم الحشد المندفع الكلي المنضوي في مسار موحد.
بقدر ما تكون مذكرات الأخ الفاضل عامر عجاج وثيقة في غاية الأهمية عن الحرب، بقدر كونها كشفاً عن وسيلة مقاومة تمكن من خلالها مئات بل آلاف من النجاه لا من الموت بل من التوحش ؛  ومن ثم البقاء على قيد الانسانية.
  لقد أبكاني كثيرا هذا الجندي في حربه، حربي الشخصية أيضاً فقد عشت وقائع حرب الأعوام الثمانية معركة معركة وخندقا خندقا، بل هو قذف بي مرة أخرى إلى معارك نسيت تفاصيلها القاسية، ومثلما أبكاني عزز الثقة عندي بالآدمية مهما واجهت وحوصرت. 
المجد لروحك أيها النبيل وإن قست عليها الحياة وعصفت بها.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM