علي عبدالأمير عجام
في الصورة نصب أقامه الحكم الجمهوري الأول في أعقاب اسقاط "الثوار" لتمثال الملك فيصل الأول وفي الموقع ذاته، أي في ساحة الصالحية لكنه أزيل بعد وصول القوميين إلى السلطة وليتحول المكان إلى ساحة جمال عبدالناصر ثم "ساحة أبي رغال" نكاية بالزعيم المصري بعد وصول البعثيين إلى الحكم 1968.
هذا النصب المثير للسخرية بل الاشمئزاز لتهافت تصميمه وقبحه يحيلنا إلى قصة الانتقام من التاريخ فهو يمتلك القدرة على التذكير بقبح الراهن، وهي قصة قديمة على الأقل في العراق المعاصر. ففي العام 1920 صدرت صحيفة "العراق" العربية في بغداد بدعم وإشراف من قبل السلطة البريطانية، لينتظم خطابها على وعد ببناء دولة معاصرة، مثلما قام ذلك الخطاب على تحميل السيطرة العثمانية معظم ما أصاب من ويلات وثبور. هنا بدأت أول عملية للتنكر من التاريخ الفاعل ثقافياً واجتماعياً في البلاد، حتى وإن كان الخطاب صحيحاً في الإمثلة التي ساقها، وهي عملية تلقفتها نخبٌ فاعلة لتبدأ في صوغ "تاريخ جديد" هو في حقيقته قائمٌ على إنكار التراكم الوظيفي والثقافي للدولة والمجتمع حتى العام 1918 أي التاريخ الرسمي لنهاية الولاية العثمانية على ما أصبح لاحقاً العراق المعاصر وقيام الحكم الملكي في العام 1921. هذا المبدأ الذرائعي "التنكر للتاريخ" في تشكيل السياق السياسي والاجتماعي والثقافي نسف فكرة التراكم في تشكيل الوعي المجتمعي بأهمية الذاكرة الوطنية وأوجد القطيعة بدلاً عنها، لا بل إنه صار "تقليداً" ستتبعه، كما سنلاحظ تالياً، في الأنظمة الجمهورية التي قامت على أنقاض "مؤسس" شطب الذاكرة الثقافية أو تنميطها لصالح السياق السياسي، فماذا فعلت تلك الأنظمة؟ بعد أيام على 14 تموز/يوليو 1958 وهو تاريخ مولد الحكم الجمهوري الذي قام في حفلة "عرس دموي"، أصدرت رئاسة الحكم الجديد حينها قراراً بتغيير أسماء الشوارع والساحات العامة والجسور والمدارس وكل المؤسسات العامة، من أسماء تحمل ما يدّل على النظام الملكي إلى أسماء دالّة على "الحرية والجمهورية والثورة والعراق الجديد"، ناهيك عن تغيير العملات والطوابع والشعار الرسمي للدولة ونشيدها ويومها الوطني. حينها بدا الأمر ملتبسا على الجيل الذي ولد ونما وترعرع وسط خطاب الحكم السابق فاهتزت ذاكرته الثقافية والمكانية، ثم مالبث أن أصبحت ضجيجاً من العلامات والمعاني، زاد ذلك اضطراباً أن الأسماء التي أختارها "الجمهوريون الأوائل" تعرضت لشطب جديد في 8 شباط/فبراير 1963 حين أنقلب "الضباط الأحرار" على بعضهم حد قتل زعيم حركتهم (عبدالكريم قاسم) والآلاف من مناصريه وبدون رحمة وشفقة، ليختفي الكثير منها لصالح أسماء تمجّد "البعث"، العروبة، القومية والدين فيما تم شطب الأسم الأول وكل دلالاته بعد نحو تسعة أشهر حين أنقلب رئيس البلاد (عبدالسلام عارف) على رفاقه البعثيين. وفيما احتاجت الناس نحو عقد كامل كي تأخذ سياقاها التداولي المعتاد مع الأسماء والأمكنة والمعاني، وهي عوامل تشكل الذاكرة الثقافية والوطنية، جاء البعث إلى السلطة في 17 تموز/يوليو 1968 ليلغي كل ما سبق حتى وإن كان متوافقاً مع شعارات الجمهورية والحرية والثورة! ليصل بعد عشر سنوات إلى تمجيد "القائد" ولتصبح مئات المؤسسات العامة تحمل إسما واحداً لاغير: صدّام ومرادفاته. وتواصلت عجلة الإلغاء والتغيير المخيفة في دورانها على نحو أعنف وأقسى مع النظام الحاكم اليوم إثر الغزو الأميركي 2003، لتنهض معاني الطائفية والتقسيم القومي والمناطقي وتختفي ملامح الوطنية والمشتركات الإنسانية شيئاً فشيئا. مالذي جعل كل القادة ينشغلون، ومنذ أيام حكمهم الأولى، بتغيير علامات التاريخ والمكان وشطبها من الذاكرة العامة؟ لقد كان ذلك قائماً على فكرة متعسفة ثقافياً لكنها طبيعية سياسياً عند الحاكمين الجدد ترى أن التاريخ يجب أن يبدأ معهم لا بل أن يحمل كل ما يدلّ عليهم أسماءً شخصية ورموزاً ودلالات، مثلما يعني هذا شطب كل ما يتصل بمن حكموا قبلهم وصولاً إلى محوهم من الذاكرة حتى وإن كانوا أصحاب فضائل نوعية وصروح بناء مؤثرة في تاريخ البلاد وحياة مجتمعها، فالتاريخ القريب عنصر شعور بالخزي دائماً لاسيما أنه يحث على المقارنة بين نظام حكم وآخر وهي سائدًة بقوة في العقل العراقي على أمتداد قرن كامل قابل للتواصل مع استمرار ثقافة المحو والإبدال. |