كيت كات

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       23/08/2011 06:00 AM


 


 الى روح توفيق الخياط

حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كان "شارع السعدون" يستعد كل مساء ليكون قلب بغداد النابض، فيما تخلد الاطراف الاخرى من المدينة الى بعض من الراحة جراء نهار عمل طويل.
قبل ان تنطفأ في بغداد معالم كثيرة، منها "شارع السعدون" والذي صار الشارع الاشهر في العاصمة بعد غروب مجد "شارع الرشيد"، وتحديدا منذ اواسط سبعينيات القرن الماضي، كان "السعدون" يبدأ حياتيا من جهة اليمين اذا كنت قد دخلت اليه من جهة ساحة التحرير، فثمة اشارتان الى حيوية اي مدينة معاصرة: وسائل الاسترخاء و وسائل المعرفة. من ركائز امكنة الاسترخاء في المكان كان كافتيريا " كيت كات" وفيها كان موعدي مع اولى  مغامراتي العاطفية في الجامعة، قبل ان ينفتح المكان لمشاوير اخرى تختلط فيها اصوات الاصدقاء الضجرين بنبرات خافتة لكتاب وصحافيين كانوا يجدون بعض الراحة في المكان القريب من ابرز مكتبات بغداد الحاشدة بالمعرفة واثاث الغنى الروحي، فثمة "مكتبة النهضة" لصاحبها المكتبي هاشم والتي عملت فيها بعضا من الوقت، و"مكتبة التحرير" لصاحبنها بناي، ولاحقا " المكتبة العالمية" التي ادارها الكاتب والناقد جاسم المطير.
والى جانب " كيت كات" ثمة كافتيريا مشابهة هي " فلسطين اكسبريس". و المكانان كانا ملتقى لراحة عوائل بغدادية وعشاق ورجال انيقين تصحبهم كتبهم او صحفهم، فضلا عن سيدات جميلات كن يدخلن منفردات او ضمن حلقات من الصديقات اللائي كن يخرجن وقد توهجن بطعم القهوة التركية، وزادتهن "حلاوة" تنويعة من حلويات ومرطبات كانت تقدم بافانين من الاواني التي يتراقص فوق حليبها المثلج، فستق حلبي أخضر.
ومن كان بدأ جولته من المكتبات ولمسة النعومة في " كيت كات" سيخرج الى رصيف عريض ليلقي نظرة الى الجانب الآخر من الشارع الذي جاء نفق ساحة التحرير ليهشم منظور جمالياته المكانية، فمنع مجال الرؤية المطلوب لمشاهدة صحيحة لنصب الحرية، وغيّر الحضور المريح لامكنة ومعالم منها "عمارة مرجان" بلمسات حانية ( استدارة العمارة برشاقة من شارع السعدون الى الجانب الاخر المطل مباشرة على ساحة التحرير) صممها من يصفه استاذ العمارة الحديثة د خالد السلطاني بانه " ابو العمارة العراقية الحديثة" المهندس جعفر علاوي العام 1954 . ومن المحال المنفتحة على "شارع السعدون" انطلاقا من الطابق الارضي للعمارة الشهيرة،  كانت هناك "مكتبة المثنّى" التي تأسست عبر مقرها الاصلي في " شارع المتنبي" في العام 1936، وحرص صاحبها قاسم محمد الرجب، على ان تكون منبر نشر امهات كتب التراث، فضلا عن كونها مصدرا لتزويد الكثير من مكتبات البلاد بما تحتاجه من كتب الدراسات التاريخية والسياسية والفكرية.
واذا كان الطرف السابق من " شارع السعدون" الذي يبدأ من " مدرسة راهبات التقدمة" التي حولها نظام البعث الى "ثانوية العقيدة"، قد توفر على ملمحي الاسترخاء الفكري( المكتبات)  والجسدي ( كافتيريا "كيت كات" ومن ثم محل حلويات جواد الشكرجي وقريبا منها "مطعم نزار" الشهير)، فان الطرف الثاني كان يحاكي هذين الملمحين وان بدرجة اقل، فالاسترخاء الروحي يمثله وجود "مكتبة المثنى" و "جامع الاورفلي" فيما الاسترخاء الجسدي كان يوفره "مطعم تاجران"، ومطعمان صغيران في شارع فرعي من شوارع البتاويين أولهما كان يقدم الاكلات الفلسطينية وابرزها الفول والحمص والقدسية واغلب رواده من طلبة الجامعة، والثاني كان يقدم " الكباب السوري" ويؤمه اصحاب المحال التجارية وحرفيو المنطقة القادرون على دفع ثمن الوجبة التي تزيد على الدينار اواخر سبعينيات القرن الماضي.
غلبة الجانب الروحي والاسترخاء الفكري هي للجهة الاولى من " شارع السعدون"، فما ان تخرج من " المكتبة العالمية" لتنعطف نحو الشارع الفرعي  المؤدي الى "شارع أبي نؤاس"، حتى تكون قريبا من اكبر ورشة للثقافة العراقية في توهجاتها التجديدية خلال ستينيات القرن الماضي وقسما كبيرا من سبعينياته،  حيث " مقهى المعقدين" في تسمية شعبية تهكمية للمنشغلين في الثقافة واسئلتها، ووصفهم بـ"المعقدين". شخصيا لم اتعرف على الغنى الروحى والانساني في اجواء تلك المقهى، الا انني كنت قريبا منها لنحو سنة يوميا حين عملت في " مكتبة النهضة"، ولاحقا كأمين صندوق في "مطعم الرصافة" أو "مطعم ابن ضعيفة" في تسمية مناكفة لمطعم شهير آخر قريب هو "ابن سمينة". ومع كل مرة كنت احتسي فيها الشاي المعطر بورقة خضراء ( ليست من ورق النعناع ولا من حبات الهيل، بل هي اقرب الى طعم الهيل ولكن بمظهر ورقة النعناع الخضراء)، ويقدمها لي صاحب المقهى ابراهيم او ابنه خليل، مستعيدا في المقهى وان كان ضيقا،  فضاءات من اثر مبدعين عراقيين حلموا بالثورة والعدالة والتغيير ثم افترقوا بقسوة الوطن وسياساته بين منفيين ومعدومين ومنتحرين ويائسين صامتين من جهة، ومن صاروا جزءا من المؤسسة الثقافية لنظام البعث من جهة اخرى.

 

ساحة التحرير ببغداد اوائل سبعينيات القرن الماضي
 
 
وفي حين كنت تستمر بالمسير في شارع السعدون بعد ان تعود اليه اذ انتهيت من احتساء الشاي المعطر بارواح "المعقدين" واثرهم الذي اضاء ليل بغداد وداعب روحها لسنوات، كنت ستصل الى "مكتبة الطريق" التي شعت مع اجواء الانفتاح السياسي في سبعينيات القرن الماضي، وكانت محطة للشيوعيين واصدقائهم المعروفين بنهم القراءة وحب المعرفة، فيما من الطرف الاخر كانت هناك "مكتبة الصياد" التي عمل فيها الصحافي علي حيدر، وكانت مصدرا جيدا لكتب الثقافة الادبية المعاصرة، لكنها كما " مكتبة الطريق" التمعت فجأة لتختف بطريقة مفاجئة أكبر. وفي الثمانينيات ظهرت في مكان قريب من "ساحة النصر" مكتبة هي أسم على غير مسمى ، فـ"مكتبة اصالة البعث"، كانت تضم اكبر عدد من الكتب المناهضة لفكر البعث، وكان صاحبها (ابو طه) الذي وسع عمله من بائع للصحف الى مكتبي خبير، يقدم لمن يثق بهم اصدارات وكتبا مخبأة تتصل بافكار ومفهومات مناقضة لفكر البعث.
 
فسحة الزمن الجميل
ساحة النصر، كانت مكانا محوريا في حياتي، مكانا مخصصا لمواعيد انتظار وفسحات بهجة كانت تبدأ منها لتأخذني الى عروض سينمائية كانت شكلت منعطفات في تاريخ الشاشة البيضاء ( عروض سينما "سمير أميس" و"بابل" و"النصر" وقليلا منها في "النجوم" و"اطلس")، وعروض مسرحية في " مسرح الستين كرسي" حيث ورشة عوني كرومي و"مسرح اليوم" و "مسرح بغداد" حيث التجديد والغنى الفكري والفني في عروض "فرقة المسرح الفني الحديث". كانت "ساحة النصر" مكان تجمع لاصدقاء ومواعيد مع صديقات ولا حقا حبيبات، مثلما هي المكان الذي ينطلق منها الباصان المرقمان 21 و 62 اللذان كان يأخذاني الى مكان قريب هو "ساحة النسور" او " الاربعة شوارع" في اليرموك ومنهما اكمل المشوار في باص 45 الى البياع حيث أقيم. ومنها ايضا كنت اصعد الباص الشهير رقم 4 وهو في طريقه الى آخر محطاته " ساحة الاندلس" حيث اتحاد الادباء وامسياته الشهيرة، او الركوب في الباص ذاته ولكن في الاتجاه المعاكس او الباص رقم 2 باتجاه "ساحة الميدان" للقاء اصدقاء من الحلة في بيتهم بالوزيرية او في القسم الداخلي بـ" الباب المعظم" أو في فسحة البهجة الانيقة التي توفرها حديقة "البريتش كانسل". وكان اختيار الباص مقصودا، فهو يعني فرصة الاطلالة على امكنة وشخوص ( الباص ذي الطابقين بخاصة)، والتأمل انطلاقا من فكرة في كتاب او صحيفة، وفي حال كانت الحاجة الى وسيلة نقل اسرع، فثمة سيارات الاجرة الصغيرة في خط النقل الشهير: ساحة النصر- ساحة الميدان، وكانت باغلبها سيارات من نوع "فولغا" الروسية الصنع.
الانتظار في " ساحة النصر" ( قبل ان تتحول الى اكبر تجمع للاطباء وبالتالي المرضى) كان متعة لا تضاهى، حيث فسحة لقراءة مقال في صحيفة او مجلة، ومتابعة فصل كنت بدأته في رواية او واحد من كتب السيرة التي ادمنت قراءتها، مثلما هي فسحة للتأمل بين وجوه جميلات واستنشاق عطورهن او التمعن في رقة وجرأة ما يلبسن من ثياب.
وبالقرب من ساحة النصر في حال المضي قدما في " شارع السعدون" تنتشر الكثير من البارات التي كنت اكره منظرها المطل على الشارع حيث كان يتبارى كثير من روادها بمنظر تجميع اكبر عدد من قناني البيرة على موائدهم، ضمن مشهد للشراهة كنت اجده غاية في البذاءة والسلوك الرخيص، فيما كان "بار الفارابي" الانيق المطل على "شارع ابي نؤاس"، مكانا افضله للقاء الاصدقاء وقضاء ليلة جميلة اخرى بعد ان انتقلنا اليه تخلصا من ضجيج "بار ليالي السمر". وفي تلك الفسحة من شارع السعدون، وتحديدا القريبة من " سينما أطلس"، كان المقهى المطل على الشارع انطلاقا من مدخل دار السينما ذاتها، وفيه كان يتجمع هواة الشطرنج ومدمنو الطاولي ورجال ونساء ينتظرون موعد بدء العروض السينمائية، الا انني نادرا ما اختبرت الجلوس في المقهى حتى في حال انتظاري بدء العروض وكنت افضل الدخول الى مكان قريب هو " تسجيلات صوت الفن الحديث" الذي كان عمد الى تقليد جميل لم اتعرف اليه لاحقا الا في لندن ونيويورك، وهو في تخصيصه اجهزة تسجيل مع "هيد فون" يمكن من خلالها للزبائن ان يستمعوا الى ما يفضلونه من الحان واغنيات قبل اقتنائها. وعبر ذلك التقليد كان يمكنني ان انتشي بالحان قصيرة، تبدأ من "هوتيل كاليفورنيا" للفريق الغنائي " ايغلز" ولا تنتهي بجديد السمراء البريطانية التي ذاع صيتها منتصف سبعينيات القرن الماضي تينا تشارلس، مرورا بفيروزيات عذبة كثيرة.
ومن الامكنة التي كانت ترّق لي كثيرا في شارع السعدون، وتنقلني الى ايحاءات عدة، تتمحور في فكرة السفر والاتصال مع المجتمعات الاخرى، كانت مكاتب شركات الطيران الاجنبية، فكان مكتب "سويس إير" بالخط الآسر الحديث لأسم الشركة والصورة الكبيرة لجبال الألب خلف موظفيه، و"لوفتهانزا" بلونيه العميقين الازرق الغامق والاصفر، كما لوني الشركة، ومكتب " اير فرانس" بالوانه " الابيض والارزق والاحمر كما العلم الفرنسي، ومكتب" اير انديا" عند المدخل الساحر لفندق بغداد، ومكتب" ايران اير" بعلامته المميزة لرأس حصان اسطوري اقرب الى الطيران، فضلا عن "مكتب توماس كوك" المختص باصدار "الترفل تشيك" الذي عادة ما كان يفضله المسافرون كوسيلة لتأمين المال في خارج البلاد بدلا من حمل النقود، وهو ما كان اقرب اليوم الى " بطاقات الضمان". مكتب الشركة المالية الشهيرة كان درسا في الاناقة والترف، لجهة بساطته ولكنها بلاغة البساطة وغنى ملامحها. الاناقة المكتبية تلك كانت تجد صداها في مكاتب شركات عراقية مختصة باستيراد الساعات الثمينة وبيعها: جواد الساعاتي ووكالة شركة "رادو" وقبلها "رولكس".

المدخل الساحر لفندق بغداد في شارع السعدون بسبعينات القرن الماضي

الاتصال مع المجتمعات الاخرى كانت له علامات اخرى في شارع السعدون، ومنها "مكتبة مكنزي" الشهيرة التي تراجعت مكانتها مع منتصف سبعينيات القرن الماضي تزامنا مع صعود قيم التشدد " الوطنية" و" القومية" والاتجاه الى التعريب الاجباري في الثقافة والتعليم العالي. وليس بعيدا عن تراجعها  واغلاقها لاحقا ان البلاد كانت تزداد انغلاقا وعزلة وصعودا لقيم العداء للاخر وووصمه بالمؤامرة. واذا كانت " مكتبة مكنزي" ضحية هذه القيم في عدائها للاخر "الاجنبي"، فان مكتب صحيفة " طريق الشعب" التابعة للحزب الشيوعي والمقابل تقريبا لـ"مكتبة مكنزي" كان النسخة "الوطنية" من ضحايا قيم التشدد الوطني والقومي البعثية، فقد اغلق الباب المؤدي الى بيت انيق مطل على الشارع، ومعه اغلق الطريق الى مكان تعلمت منه اولى معارفي الصحفية، واولى مباهجي في النشر الادبي وتحديدا في  كتابة قصيدة النثر، ذلك الشكل الكتابي الذي ستمتنع الصحيفة عن نشره لاحقا، حين ابلغني لاحقا الشاعر حميد الخاقاني بان قصائد النثر تثير حفيظة السلطات في وزارة الثقافة والاعلام وتحديدا الوزير الشاعر شفيق الكمالي الذي كان يعتبر " قصيدة النثر مؤامرة على الامة العربية".

"ترزي الندى"
من ذلك المبنى الانيق لطالما كنت خرجت انيق الروح مبتهجا بقصص نشرت لي في صفحة " ادب الاطفال" او بتحقيقات واخبار قصيرة عن اصدارات ونشاطات فنية وادبية في الصفحة الاخيرة، ومقالات مترجمة في صحفة للطلبة والشباب، كانت رائدة حينها، اذ قلدتها صحف عربية كبرى ولكن بعد عشرين عاما، في تخصيصها ملاحق للشباب وقضاياهم، وكلها جاء  طوعيا وجزءا من عملي صحفيا متدربا، على يد كتاب وادباء وصحافيين وكتاب واكاديميين كانوا يشعون ابداعا ومحبة وانفتاحا فكريا وانسانيا قل نظيره.
انه مكان ينث "ندى" على الروح ليس اقل من الندى الذي يختصر الاثر الانساني في حضور " ابو ندى"، توفيق الخياط، في صومعته الحرفية والثقافية والانسانية التي وإن كانت تضيق الا انها وحتى في اشد ايام العراق قسوة : صعود الديكتاتورية وسنوات الرماد في حربي ايران والكويت ولاحقا الحصار، كانت تنث ندى يقلل في الروح جفافها.
محل توفيق الخياط كان قريبا من مكتب" طريق الشعب" واقرب الى " سينما بابل " بل هو في اول الشارع  المتفرع من " شارع السعدون" والمؤدي الى "مسرح بغداد"، وكنت تعرفت على اول لمسة منداة منه حين اصطحبني اليه اخي قاسم اثر خروجنا من " طريق الشعب"، لاتعرف من خلاله على كيف يمكن لانسان يبدو " عاديا" ان يختصر عمقا انسانيا وتاريخيا وثقافيا في حكمة شخصية مؤطرة بالحكمة العميقة. ولم ازر "ابو ندى" الشيوعي النبيل الحالم بعد السبعينيات متوقعا انه غارد البلاد هربا من ملاحقة نظام البعث المؤكدة له، حتى فاجأني الصديق الفنان مقداد عبد الرضا في آواسط الثمانينات بان ندخل الى محل " ابى ندى" للسلام عليه، فتصلبت مكاني مترددا من لقاء من توهمت انه لم يكمل معنا فصول المأساة والرعب، وآثر "الرحيل طلبا للسلامة" كما هي الفكرة شبه الثابتة عند اغلب العراقيين الذين كانوا ينظرون الى رحيل اصدقائهم او زملائهم بحثا عن مكان آمن لم يكن الوطن قادرا على توفيره. ولم اكن انا بعيدا عن مثل النظرة التي اختبرت لاحقا عدم انسانيتها وقسوتها بعد ان صرت احد ضحاياها من خلال رحيلين، الاول كان اختياريا في العام 1994 والثاني قسريا في العام 2004.
" ابو ندى" الانيق المنكب دائما على اضفاء لمسات حرفته، كان بندى لقاء الاصدقاء ذاته، ولكن بشيء من الاطراقة العميقة والنبرة الاكثر خفوتا في الحديث، وبكثير من الاشارات الموجزة الحكيمة تعليقا على اوضاع البلاد في فصول محنتها المتصلة. سألني اولا عن اخي قاسم، دون ان ينسى السؤال فيما اذا كنت اواصل الكتابة، لابلغه بقائي على قيد الحياة الثقافية، دون ان اقترب من محظورات السياسة في العمل الثقافي حينها، فانا خارج المؤسسة الثقافية الرسمية ولم اكن موظفا في اي منها ، ولست عضوا في اي منها عدا اتحاد الادباء، واواظب على النشر في مجلة " فنون" ولا حقا " الف باء" و صحيفة "القادسية" و اكاتب مجلة "اليوم السابع" الباريسية عبر كتابات في نقد الموسيقى وبعض من نصوص شعرية رمزية وقراءات نقدية في نتاجات  أدبية جديدة.
وبقدر ما قابل تلك الاخبار بشىء من "ندى" ابتسامته، فانه لم يتردد عن ان يدق جرس انذار في روحي، حين كان يرى سوءا اكبر ستمضي اليه البلاد، لم اكن انا حقا اراه ناهيك عن تحسس بواعث مخاطره، التي كان يبث لي بها في كل مرة التقيه، الى أن كسر ظهر البلاد  في العام 1991، حين صار الندى في ابتسامته حزنا شفيفا ينسجم مع نظرة متأسية وكلاما كثير الخفوت اقرب الى الاهات المتصلة منه الى ان يكون حروفا ومفردات.
وفي الايام الاخيرة من وجودي في بغداد وقبيل مغادرتي لها في العام 1994، كنت ادير عيادتي الخاصة في مجمع الشؤون الزراعية والبيطرية بمنطقة "السنك"، وكان الطريق الى بيتي القريب من المسرح الوطني في الكرادة يمر بي يوميا  على ركن "الندى" الانساني في بغداد، وهو ما جعلني اتوقف عند " ابي ندى"  محاولا التطهر مما علق بي من اسئلة القمع والحصار وغبار الحروب وانشغالات تجارة الادوية واللقاحات، وفي واحدة من اشاراته اللافتة والنادرة، ابلغني توفيق الخياط بان نبرة من الغضب والنقد الحاد والمباشر للنظام والاوضاع البلاد هي المميزة لحديثي، دون ان ينسى التنبه لما كنت لم اقرره بعد، فهو توصل الى اعتبار تلك النبرة الغاضبة، مؤشر يأس سيدفعني الى الرحيل. ومرة اخرى يرى " ابو ندى" ما لم اكن اره، فبعد نحو سنة من تعليقه ذاك ، توجهت الى محله مودعا اياه دون ان اتمعن لا في حديثه ولا بملامحه، اذ كنت مطرقا الى داخلي الغاضب والصاخب واليائس.
وفي احدى زياراته الى منزلي بعمّان حيث ندى العراق لم ينفك يلطّف اجواء حياتي ويؤرقها ايضا، ابلغني الصديق مقداد عبد الرضا، ان " ابى ندى"  رحل، تاركا لروح العراق ان تفجع بقوة، وان تنشغل بمعاينة فصولها وهي تمضي  قدما نحو ازمان تفتقد القلوب "الندية"، مثلما الامكنة تغلق فصول نداها ومسراتها شيئا فشيئا لتستحيل الآن شواهد على مدينة بلا قلب، مدينة الحواجز الكونكريتية.

 



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM