أمكنة في الحرب

تاريخ النشر       14/11/2009 06:00 AM


الطرق كلها ....اخذتني الى الموت

نقاط الشروع والانطلاق، النقاط الحرجة والخوانق، كل مرتسمات الطرق، إمتدادها المستقيم، وانحناءاتها الملتوية، تلك الطرق التي اكتسبت ملامحها من حبر الاسفلت العميق، أو التي إكتست بصلابة بيضاء من صلصال مقطّع صغير، الطرق الرملية الخادعة او الطينية الموحلة، الطرق يرافقها الجندي وتبقى تشكل رمزا مؤثرا في رحلته ذهابا وإيابا الى ميدان الحرب. الطرق التي تفتح ذراعيها للبساتين وظلها الجميل ورموزها الخضراء وسورها الطيني وخيط الدخان الابيض الذي يضفي على المشهد غموضا عذبا في الغروب.
صورة الطريق في الريف ظلت مؤشرا لا يتوقف عن ارسال دلالته: هاجس الرحيل لانسان عزيز صوب المجهول ! 

 
                                                                  
الطرق كلها أخذتني الى الحرب .. الطرق التي صادقت البحر وجاورت شبه جزيرة الفاو، صعودا الى تلك التي تخترق المضائق وتتسلق السفوح، وتهدأ عند نقطة تنعطف معها مجاورة السواقي وهي تنبثق للتو من مسقط مائي صغير او نبع، آه طرق كردستان القصية، تتصل بامكنة تتناسل خضرة وعذوبة وجمالا، ومسافة الطريق إذ تبتعد اكثر، تنقلنا صوب الاحساس البكر بالاشياء، هنا تتشكل هندسة المكان، دونما تدخل سافر في شؤونه، ثم سقائف من أغصان وأوراق لأشجار الموسم الماضي، وحوض صخري تصب فيه مياه ساقية تنزل من ربوة قريبة من المكان، آه رقة الهواء النقي، المياه العذبة الباردة، تتآزران لردع الاحساس المضني بتعب الطريق جراء انحناءاته الكثيرة وحلقاته الصاعدة وهي تتسلق سفحا اثر آخر ... الطرق مكتظة تارة واخرى إنسيابية تؤمن جلسة هدوء تضمن للجندي فرصة التطلع عبر نافذة السيارة نحو عوالم المكان واقتباس موازنة ما بين اشيائه المتفاعلة، واجبه القتالي وإنشغاله بزوايا بيته التي تركها تنبض بالحياة ولمسات الحنين وبين ترقبه الذي لا يهدأ، ترقب أن ينحدر الى سهل حياته الفسيح ويوطّد مشروعه الحياتي، بعد ان أوفى سنوات المواجهة نداءاتها واشتراطاتها، نزف دمه، وعبر مدار الشظايا كي يظل الافق بعيدا عن نثارها الرمادي الجارح، وبالتالي كي يظل نسيم بلاده صافيا وعذبا "يجرح" فؤاده بهواء عجيب. الطرق توصل الى بوابات الجبهة، أمكنة في الحرب تظل تشكل علامات تنبض بالحياة، ما قبل الدخول في المعركة او الخروج منها، أو أن تتحول الى نقطة إسناد للقطعات، وتكون في تماسها بنبض القتال وحدة متماسكة ... المكان هنا يتجذر في تاريخ الحرب، وتظل كل معركة تتشبه باشتراطات المكان، لكنها لن تتحول الى عوائق في ظل وجود متغيرين كبيرين: الزمان ذاته والمقاتل اداة الحرب وعنصرها الحاسم، بما يشبه التجوال بين أمكنة الحرب، حربنا بفصولها الاسطورية، ستكون قراءتنا لاسماء مدن، قصبات، وأنهار عبر علاقتها مع الجندي اولا، وبتفاعلها وما تركته من آثار في وثائق الحرب ثانيا.        

" نهر دويريج " ....

أتتسع آفاق القيظ لفسحة من المياه الباردة الصافية؟  يبدو الجواب كأنه الامنية، ولكنها متحققة هنا ومعارك الزبيدات في نيسان 1988، جعلت هذا النهر يقفز الى الصدارة لستراتيجية موقعه بالدرجة الاساس ولكنه في تفاصيل القتال وعلى الرغم من ضفافه العميقة والحادة والمتهدمة أحيانا يكتسب لمسته الناعمة في تغيير سخونة المكان، الاعشاب دليله على العذوبة ولونه دليل على الصفاء، فسحة يكتشفها الجندي كي يعاند بها القيظ ويستحم بعودة الى ضفة اخرى ليست فرصة الاستراحة حسب بل العودة الى ايام الشواطيء الفسيحة، الى الاطراف الغضة القافزة الى المياه، الى الطفولة، فثمة جمهرة وجدت فرصة سانحة للخروج من إشتراطات الرتل وداعبت حالة القتال بمشاكسة حياتية بهيجة حين قفزت كي تبترد في مياه "دويريج"...
هذا النهر النازل من ينابيعه الكامنة في الجانب الآخر من الحدود، لم تغيره سنوات الحرب بكل قذائفها الرهيبة، لم تتغير طبيعة انسيابه، النبع هناك والى روابينا مسراه، إمتداد النهر جدل في حيادية الطبيعة بعيدا عن قناعات الجانبين المتحاربين... أيكون هو رسول السلام يتسلل الينا بهدوء ونحتفل به على طريقتنا الخاصة.. قد يكون هذا؟ وقد تصبح صورته الاخرى، حين يصبح آواخر الشتاء مصدر جزع للقوات المنتشرة على جانبيه فعمقه البائن هذا صيفا يتحول الى إمتلاء هادر بعد مواسم الأمطار ونذير دائم يستدعي التحسب خشية الفيضان ... نهر صغير ولكنه مكتوب في ذاكرة الحرب بعمق، على جانبيه قاتل الجنود وعلى إمتداداته عسكرت الكثير من الوحدات، وعبره الكثير من الارتال، وبالتالي أوجب بناء الجسور والموانع ونقاط الحراسة، مكان عرفه المقاتلون، عبروه في "ساعة  س " وعادوا اليه بعد انتهاء المعركة، ينشدون عنده ساعات من " إعادة التنظيم "، النزول الى أطراف مياهه وإزالة ما علق بالثياب والجسد من غبار كان دائما كثيفا لدرجة تصبح فيها الرؤية شبه معدومة، لكنه النهر ظل وفيا لانسيابيته وتدافع مويجاته الصغيرة على مساحة من الحصى الناعم، حين يحدث بعض التغيير الطوبوغرافي على ضفافه مبتعدا من منطقة "الفكة" باتجاه "الطيب" ... والليل أنيس الخافر المناوب على الجسر المقام على ضفتي النهر، لكنه يأنس أكثر لعذوبة هذا النسيم المرتفع فوق صفحة المياه ... " دويريج " معك اصبح بالإمكان ان تتسع آفاق القيظ لفسحة من المياه الباردة والهواء العذب وان كان ذلك في الجنوب الساخن!                             

" النشوة " ....

 
هناك من مسميات الامكنة ما تتبادل معناها من طبيعة المكان ذاته، أهي " النشوة " تمنحنا النشوة حقا؟ هي الناحية أو قل مجموعة البيوت المتوزعة على الطرف الشرقي من شط العرب قبل الدخول لمنطقة " الدير ".. هي الحقول البسيطة الصغيرة النظرة دائما بخضرة لماعة تمنح النفس المتطلعة نحوها، إشراقة خفية، إشارة الجهد الانساني هذه، ظلت على امتداد ايام الحرب متواصلة تتراصف على امتداد الطريق الصاعد والمتوزع على الجبهة المشتعلة، القوة المدافعة هنا كأنها تخرج من قوة الجهد المبذول في ادامة الخضرة في الحقل المهدد بكثير من الغبار الخانق ! النشوة ايضا تعلم تلاميذها، ويطلع الصغار من بين الحقول صباحا في مجموعات صغيرة تختار وسائلها المتباينة في الوصول للمدرسة ... الحياة هنا تآخت مع الجار الجديد: العسكر، والارتال ستجد الكثير من صيغ المحبة الجامحة التي عرف بها البصريون، وهؤلاء الجنود القادمون الى بساتين النخل، منحوا " النشوة " مأثرتهم الخاصة، فمدرسة متعبة مبنية بوسائل بدائية لا تنسجم مع فيض الجهد في البناء، فبادرت " قوات سعد " ببناء مدرسة وفي ايام ثلاثة، مكان عصري نظيف لاطفال "النشوة" التي تريح ظهرها على ضفة شط العرب، وتنشغل بزيادة رقعة الحقول الخضراء ... وتظل واحدة من المحطات التي تمنح الجندي، وهو يواصل طريقه الى موضعه القتالي، الكثير من لمسات طيبة مفعمة بانسام من عذوبة بستان النخل المرتوي بمياه شط العرب.
 

"قزانية" .... واحة على خطوط النار

الواحة، إسم يكتب مؤثراته، قيظ وامتداد رملي وقوافل أقرب للتيه، لكن ضمن هذا التطرف الطبيعي الممعن في القسوة، تولد الظلال وتنساب المياه العميقة بقوة الى أعلى فتنهمر في سواق صغيرة، يتجمع في ضفافها الطرية بعض العشب الرقيق، والقادمون من رحلة التعب الطويلة. صورة " الواحة " هذه وبدقائق تفصيلية أوفر، تعثر عليها حين تصل أطراف " قزانية " المدينة الحدودية في "قاطع سيف سعد " من جبهة الحرب، فهي الواحة بمؤثراتها الطبيعية المؤشرة، لكنها هنا بتقسيمات "حضارية" نوعا ما، إكتظاظ من الخضرة وبساتين النخيل وسط السهوب الجافة التي تتناثر حولها، جنوبها صحراء" بدرة " والى الشرق منها "مرتفعات حمرين" القاسية بصخورها اللاهبة، غير انها والى الشمال القريب تفرح بملاقاة ومجاورة واحة اخرى هي " مندلي " وغربها نسيم حارق من الارض الملحية الممتدة بعيدا حتى "بلدروز".. النهر القريب من قزانية يمضي مهدم الضفاف ... وجسر المدينة القديم، جسرها الصخري اخذ من الضفاف مصيره، فتهدم هو الآخر. وحدة "الهندسة العسكرية" اقامت جسرها الحديدي قريبا من احد بساتين النخل المزدهية بسياجها الطيني، والمطلة في جانبها الآخر على الشارع الرئيسي للمدينة.
 

      
 
عجلات عسكرية وأخرى تعود لاهل المدينة الذين ينشطون في مبادلاتهم التجارية البسيطة. في الطرف الآخر من قزانية – المدينة،  السوق الذي تبدو حوانيته المتناظرة البناء في عجلة من أمرها قبل ان تغلق ابوابها مع الضياء الاخير، دور المدينة البارزة بيضاء تعود الى نشاط حكومي معين ... عانت كثيرا من رشقات القصف الايراني وهناك جدران بكاملها حفرت فيها الشظايا بضربة فنان سوريالي دون ان تترك فيها مساحة مستوية !! هكذا تتآخى المدن الحدودية جميعا ... لها الكثير من النسائم وعندها وفرة من الاخضر ولها ايضا الوفير من الشظايا ! .... هذه المدن صديقة الجنود وميادينها التي كثيرا ما تصبح مرائب للعجلات الذاهبة الى بغداد، تحمل لهفة الجندي وحقيبته ... الحقائب رديفة الرحيل وابتعاد المسافة وارتباك الاصابع.
" قزانية"  ضيقة ولكنها مفعمة ومشغولة بالنسيم وكذلك باعطاء الدلالة على نبعها القائم في مدخلها الغربي، مياهه باردة صافية ... نبع يبذل رحيقه لعجلات الجنود المتوقفة، وقزانية تفتح روحها للداخل اليها بلا تردد ... مباشرة ينتهي الطريق وينعطف بقوة الى اليسار، وبستان النخل يمتد على جانبي الطريق والنهر الذي ينساب طيعا متهدم الضفاف وينسى كل انشغالاته بالبهجة التي ستقيمها له البساتين ... " قزانية " واحة على الحدود دخلت ذاكرة الحرب، وهي تنظف شوارعها دائما من شظايا آخر قذيفة نزلت عليها.                                                                                          

" الطيب " .... سهوب الغزلان الموحشة

مدينة حدودية صغيرة في قاطع العمارة رسخت في ذاكرة الحرب وتحديدا في اخر عام 1982 والعامين التاليين . تلك المدينة الصغيرة النائمة في حضن سهل فسيح يمتد من المرتفعات الحدودية عميقا باتجاه العمارة، عبرت حدودها الضيقة الى مستوى اكثر سعة من خلال ارتباطها بمواجهات كثيرة شهدتها سنوات الحرب ... هي التي تمتد بنطاق ضيق من البيوت التي لم يكتمل بعضها حين هجرها الناس اتقاء لشر القذائف وتهديدها لرموز الحياة المكتظة في ابهاء تلك البيوت وغرفها التي اتسعت لكل شيء، شأنها شأن اي مدينة تمارس الاصباح يوميا على حياتها، ولكن ملاحظة الاستغراب هنا تأتي من خلال مرافقة المكان هذه المرة لاوقات تمعن في تغيرها، الصمت ثقيل ومويجات نهر المدينة في انحداره  الهاديء تزيد من الاحساس بالصمت ومراقبة الاشياء المتولدة عنه ... معمل الاسفلت الذي سكتت مكائنه ومقالع الحصى ومغاسل الشواطيء، مغاسل الرمل ... مؤشرات لضجيج تفرضه الحياة وحين يغادرها نظل مشدودين اليه بأسف واضح ... نعم ضجيج الحياة وتيارها الجارف ... أبهى من قلاع الصمت المشيدة هنا بضخامة تكاد تغلق الآفاق ... لكنه صمت مع وقف التنفيذ ... فثمة الطرق المؤشرة على الخارطة ومقاربتها على الارض، ومن هنا تنزل القذائف على مداخل المدينة وطرقها تحديدا لذا فإن السرعة مطلوبة حين تدخل بالعجلة الى المدينة فتخترقها صوب المواضع التي تتوزع الحدود الى الشرق منها ... الطيب باتساعها ووحشة مداخلها تزيد من الاحساس بقسوة الشتاء وبرودته، لكنها تغدو وحتى المواضع القريبة منها ناعمة، بهية وتثير المرح بعد سقوط الامطار فطبيعة أرضها الممزوجة بالرمل والحصى، تجعلها بمنأى عن المرارة التي تثيرها الاوحال ... المطر هنا يغسل الشارع الوحيد، ويغسل الواجهات ويذكر الداخل للمدينة بالكثير من المظلات التي كانت سترتفع هنا على أرصفة يخط عليها الناس حركتهم، لكن يبدو ان على هذا المكان ان يزيد قدرته على تحمل فضاء الوحدة هذا، كي ينعم برقصة تثيرها المظلات المبللة باجمل ما يتركه المطر، قطرات صغيرة تتدحرج على قبة المظلة لتنزل من على اطرافها وتكون ايد ناعمة بانتظارها لتداعبها بمودة بالغة.


"الطيب" ايضا هي سهوب الرعي وقطعان الغزال البري المختبيء بين طيات الارض المتموجة ما بين ارتفاع واضح وآخر خفيض ... وعلى الرغم من كل المهارة الفائقة التي يبديها في التملص من التهديد وبشتى وسائله، غير انه كثيرا ما نجده ممتدا ومطهيا كي يقدم على رأس لائحة دعوات الطعام المميزة لضيوف الوحدات العسكرية، فهناك مهارة الصيد والدقة في الاصابة عند مقاتلين كانوا يجدون متعة لا تدانيها متعة، في اقتناص فريسة ناعمة كالغزال والعودة به من سهوبه الطلقة بعنقه الملتوية مطروحا على حديد عجلة الحمل الصغيرة.. ممارسة الصيد في براري " الطيب " وسهوبها شاعت بين الوحدات العسكرية كفسحة للهروب من يوميات الشظايا والقصف المتبادل والانذار بدرجاته القصوى دائما.. والى جانب الغزلان ثمة الطيور التي تكون أجنحتها المفتوحة اشارة الى فضاء خال من الشظايا ، كانت تطير هنا احيانا، وكانت فألا حسنا عند الكثير من الجنود المرعوبين ....                          
" الطيب " تفتش عن زهرتها البرية ما بين المداخل وضفاف النهر الهانيء بقاعه الرملي، بينما تكون نسمة منها قد عبرت باتجاه العمارة التي تنشغل بوفرة "ضيوفها" من العسكر وتعودت قضاء أوقات عذابها بأن تدلي أقدامها كطفلة لاهية في المياه التي تحاصرها من كل جانب. 
 
الهواء النقي في قلعة دزة
" سنة عن سنة، عم تكبر بقلبي، عهد الولدنه، يا حلو يا حبيبي مبيعك بالدني، كل سنه بحبك اكثر من سنه "،  صوت  فيروز الاثيرة للنفس يتداخل مع صمت اللحظة التي تعلن عن وجوب رحيلي: إامرأتي انتهت من إعداد حقيبتي وأضافت عليها مجموعة كتب جديدة ودفتر يومياتي ... الساعة الحادية عشرة صباحا وطرقات الرحيل على زجاج روحي واصابع امرأتي المرتعشة، غير ان وسط بغداد غير عابيء بنا فمن ينشغل بعاشق يسكن الطابق الثالث في عمارة عالية لا ينسى ان يلقي نظرة ويطمئن فيها على نباتاته الصغيرة قبل ان يغادر امرأته الى جبهة الحرب؟
ها أنا في الطريق الى  السليمانية، وصحبتي الدائمة للطرقات المتباعدة اقصى شمال البلاد أو جنوبها لم تسفر عن نتيجة ايجابية مع وحشة السفر. ومن أرض متموجة الى ما يشبه التلول انتهاء بمرتفعات تصعدها الطريق وتنزل الى عمق الوديان وترقى ثانية لنسمة باردة وعشب لم يزل اخضرا رغم الظهيرة الحزيرانية ! ومن اقصى نقطة في مرتفع "طاسلوجة"، تنفتح السليمانية أمامي تلبس الاخضر وتستلقي في اتساع "سهل شهرزور" الخصيب، وتتكيء على ظهر سلسلة "جبل ازمر".
لم يتعب قلبي بعد من وحشة الطرقات، أقابل نأي المسافات بتحويله الى قدرة ذاتية على التأمل وأنا اجتاز النهج الترابي الصغير صوب معسكر وحدتي. ينتصف أول نهار لي في المعسكر ويبدأ انسجامي مع تواتر المشاغل وابداء الملاحظات، في الغروب إستلمت اشارة تلفونية: التهيؤ ... وحدتنا ستبدأ حركتها الى مكان ما صباح الغد ... تبدأ التحضيرات، مجيئي ورواحي من والى المقر التعبوي للوحدة، منتهيا عند ما يشبه الغفوة التي أتت بها ساعة الليل المتأخر ومصحوبة بالنسمات تنزل من قمة "جبل بيرة مكرون"، فاقضي القليل من الوقت نائما حتى أيقظتني الشمس ... فجرا بدأ رحيلنا.
أخذنا الطريق المتفرع عند "قرية طاسلوجة"، التي لم تكن قد نهضت من نومها بعد ،صوب " دوكان " .. المسافة من "طاسلوجة الى دوكان" هي الطريق الى الجنة، مقاه صغيرة تتوزع جانبي الطريق، هي محطات للظلال الوفيرة والمياه الصافية الآتية من اعلى ينابيع الجبال، مروج خضراء كأنها الغبطة والى جانبها الترب المحروثة السوداء إشارة لخصب وفير ... الظلال والمياه في دوكان نجتازها من فتحة الزاب السفلى ونأخذ يسار المدينة لننعطف حول البحيرة الواسعة المتكونة أمام سد دوكان وجداره الكونكريتي الضخم، كمية المياه الهائلة تهدأ في سطح أزرق مستو، ثم نصل " خليكان " وهي حقول للتبغ (عجبا في ان التبغ الذي يلوث الرئات، يمتلك هذه النبتة الجميلة باوراقها الخضر الكبيرة )، ومن مفرق "بستانة " نجتاز ارضا سهلية لنواصلها صوب " رانية " المدينة التي تنشط حواريها على ضفاف بحيرة دوكان ويلعب فيها النسيم، مكان كأنه الحلم الضوئي بين الازرق المائي والازرق السماوي، حتى أكاد أهتف لهذا الفضاء من اللازورد، كم هي البحيرة واسعة وتملأ البصر وكم هي خلجانها الصغيرة جميلة حين تتبادل المواقع مع أشباه جزر اصغر منها ... ومن " رانية " نخلف وراءنا قرى عدة قبل ان ندخل  " قلعة دزة " عبر جسرها الحجري القديم المطل على واد عميق ومنها يواصل الرتل على الطريق الصاعد الى فتحة الزاب وثمة ساعات للاستراحة عند منطقة "دار شمانة"، وفي جنبات ذلك المكان أنهى الجنود إكمال قيافة الميدان وعتاد الخط الاول والثاني وبدأوا صعودا يأخذون الطريق النيسمي باتجاه قمة الراقم الجبلي2719،  وفي منتصف المسافة لم أعرف كيف اهتديت بمعونة الجنديين كريم واسماعيل الى نصب خيمتي، وفيها ارتميت ورحت في غفوة عميقة، قطعتها طلقات المدفعية بعيدة المدى لتضرب "التجمعات المعادية".
طيران الجيش بدأ نهار عمله بنشاط كبير، وعند الباحة التي كانت لصق السفح والتي اخترتها موضعا لي بدأت الإشارات تترى عن حرارة الموقف المحتدم عند أعلى الراقم فنقل الملازم الاول راشد جريحا وقدمت له مجموعتنا إسعافا اوليا قبل أن ينقل بعجلة إسعاف الوحدة الى مستشفى ميداني قريب، الموقف أسلم غموضه الى ارتالنا الصاعدة، وكثافة النيران التي توجهها المدفعية والراجمات ستتولى الاجابة على كل شيء، هكذا كنت إتابع إسناد عمليات وحدتي، وفي فسحة توفر لي فرصة الظل وافتتاح النسيم! تأملات لا اتوقف عن التداخل فيها وبمصاحبة من إرض معشوشبة ممتلئة بالعناكب والجراد الضخم والعقارب ... وثانية في افتتاح النسيم اكتب مستذكرا امرأتي :
ياوردة عمري، أي بعد ملغم بالضنى والهجرات، يطوينا في وحشته؟ لكنني، من هنا، اشم عطرك، يزهو براعما على عنقك، من هنا أقاتل قوى الفناء، حين توجه موتها نحو زهرة حبي، أرعى في مسيرة بين الروابي، في سواقي الماء النقي، وفي مفتتح النسيم، أرعى كل قدرتي على الحلم، أرعى النضارة في روحي، هكذا أشرق بالوان محبتك.
المدافع تضرب ثانية ... الجبال تيقنت من تحولها الى بيت كبير للوحشة ... المعركة انقشع عنها الكثير من الغبار ... "المغاوير " بدأوا الصعود وسيواصلون إتمام مهمة وحدتنا ... عاد المحاربون من سرايا فوجنا ... وتحدث آمرنا باشارات جادة وبأخرى لا تخلو من المرح وروح النكتة تعليقا على تراجع وحدتنا امام نيران القوة الايرانية المتحصنة أعلى الراقم الجبلي ، لاحقا جمعتنا وإياه مائدة على طرف ليلة صيف وانتهت جلستنا بما ورد عبر برقية من قيادة القاطع : " يعود فوجكم الى منطقة اعادة التنظيم والتهيؤ استعدادا للواجبات القادمة" (انتهت).
في الصباح التالي كانت عمليتنا في الفقرة الاولى من بيان القيادة العامة للقوات المسلحة  1129  الصادر في 21 حزيران 1983 ومشيرا الى "اجبار العدو على التقهقر"!! وكما نصت برقية قيادة القاطع، بدأنا الحركة لتنفيذ " الواجب القادم " وهذه المرة صوب فتحة الزاب الاعلى، وعند قرية صغيرة اسمها " نور الدين " حيث الاخاديد المزروعة بين السفوح اخترنا منطقة للاستراحة،

 
 
فتوزعت السرايا واستلقى الجنود على العشب وبدأت " حفلة " شاي صاخبة، لا اعذب ولا احلى ! ثم بدأنا بالصعود حتى وصل الرتل لاقصى نقطة ينتهي عندها الشارع الاسفلتي لتبدأ التضاريس تتنوع، تتلون وتصبح اكثر بدائية، كانت الطريق تمتد ما بين مرتفعات ووديان ضيقة كأن الحياة خلقت فيها للتو، الزاب بمياهه الصافية يندفع بقوة على جرف ناعم وبراق ثم ارتفاع آخر يوصلنا الى حوض معشوشب فسيح، ثم الى قمة تقطع الانفاس من مجرد الاخذ بالحسبان فكرة اجتيازها، وعند اقصاها كان الهواء العالي يتداخل مع رتلنا الذي يتجمع كي تتسنى لنا فرصة منظمة للنزول، وهذه المرة بطريق منحدرة بشكل حاد الى نقطة من السحر والاكتشاف البهي لكنها نقطة قصوى في المشاق.. أحقا هنا كل هذا الجمال ؟ على رأسي قبعة الانبهار، أتطلع نحو التفاصيل العذبة للينابيع والاشجار تنساب حول اكتاف السواقي النازلة سريعا من السفوح الى حصى الزاب ... الحياة المنتفضة هنا بدت ملغومة بكثير من  الاسرار؟ بالكثير من البنادق وبالقوى المخصصة لاغتيال الحياة؟ نعم .. قتل المخابر كريم ، حين تلقى رصاصة قناص أسقطته مع جهازه فاستقر بين صخور الوادي ... لمن كنت تبتسم دائما ايها القتيل؟ و جاءنا الجندي محسن مشتت الذهن ...فقد  سقطت قنبلة قربه وسببت له الصمم الوقتي ...
القمة – الهدف كانت عبارة عن امتداد متواصل لقطوع جبلية شاهقة تتعالى منها اعمدة الدخان جراء شدة القصف المدفعي الذي امطرت به قطعاتنا تلك المنطقة التي شهدت استحكامات "القوة المعادية" ...
هدأ كل شيء ...وتم احتلال الاهداف المؤشرة. وفي النهار التالي عدنا الى " قلعة دزة " عبر السفوح والقواطع والمضائق، وعند ضاحيتها بدأت العناية بشتات الذهن في دفتر اشواقي: "من هنا، من آخر الحدود، من عصب الوطن شديد الرهافة، اكتب اليك تنويعات على نشيدنا البهي وقلبي ينبض بالوجع وروحي كدرة جراء التفريغ الهوائي المرعب الذي تحدثه قنابل المدفعية الثقيلة، عائد اليك ايتها الشجية، أنعم معك بالمساء في "صالة البهجة"، نقيم على طرف الحنين ... والامنيات هذه كلها، ساودعها هنا لتصبح صديقة المضائق وطرق الجبال القصية، أرضها الوفيرة الينابيع وأفقها الباذخ النسيم،  علّنا سنعثر عليها ذات يوم حين نأتي الامكنة وهي تستمع للغناء البسيط وتدخن لفافة تبغ مشبعة على ناصية مقهى تنشر كراسيها تحت الظلال.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM