كورساكوف في حي العدل

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       11/01/2011 06:00 AM


كورساكوف في حي العدل

الى امين علي عودة

في ربيع العام 1976 قرأت عند باب نادي كليتنا اعلانا للفرقة السيمفونية الوطنية العراقية يلفت الى انها قررت بيع تذاكر الدخول الى طلبة الجامعات بسعر مخفض،  ولاننا أصبحنا مجموعة تدمن التجريب ومعرفة الاشياء عن قرب، لذا قررنا أنا وصديقي أمين على عودة الذي كان يضع لنفسه لقب "الشرقي" في إشارة الى الإصول "الشركاوية" لوالده القاضي العصامي والأريحي الذي أقام لنفسه سيرة مهنية وإنسانية رصينة مما جعله محط إحترام وتقدير دائرة إجتماعية واسعة، قررنا إبلاغ أصدقاء مجموعتنا التي أصبحت لاحقا تسمى ب"الزوية" لاننا كنا نختار الزاوية اليمنى من نادي كلية الطب البيطري بمعماره الجميل، الذي طرزه بروحيته الفاتنة المعماري العراقي الكبير محمد مكية، باننا نعتزم حضور حفلة الفرقة السيمفونية في "قاعة الخلد" الواقعة في منطقة كرادة مريم .
كان الدافع غير المعلن الى حضور الحفلة هو إختبار المعلومات والمشاهدات ونقلها من باب الثقافة المقروءة والمرئية أحيانا (هنا تأثير جميل غير معلن للشاعر والناقد صادق الصائغ الذي كان اعد وقدم برنامجا تلفزيونيا لم يستمر غير حلقتين اوثلاث عن فنون وثقافات عالمية رفيعة احتلت الموسيقى الكلاسيكية حيزا بارزا منها) الى لحظات حية يمكن تلمسها باليد والحس الشخصي. كل ما أذكره الآن وبعد أكثر من ثلاثين عاما ان حفل الفرقة السيمفونية ذاك تضمن كونشرتو للتشيلو والأوركسترا لا أتذكر مؤلفه فيما ظل عالقا بذهني عمل سيمفوني  للمؤلف سيبيليوس عزفتها الفرقة باقتدار.
أجواء العرض الفني في "قاعة الخلد" كنت عرفتها قبل ذلك  وتحديدا في العام 1970 حين أحيت مدرستنا "اعدادية المأمون للبنين" حفل التخرج وتضمن عرضا مسرحيا تربويا بادارة أستاذ اللغة العربية صبيح الشحاذ وكان حوارا عابرا للزمان عن الحكمة وفيه يلتقي شخصان(أحدهما يمثل الزمان والآخر يمثل التاريخ )بلحى ولغة بدت غير مفهومة لي عن الإرث الانساني، وكيف يتمكن العرب من إقامة مجتمعهم المثالي عبر العدل والحق، ودائما عبر الإستزادة من حكايات ومواقف تاريخية، ومثلت في المسرحية دور أحد مريدي حكيم العرب في الجاهلية أمية بن أبي الصلت وفيه قلت جملة واحدة فقط. المرة الثانية التي عرفت فيها قاعة الخلد كانت في العام 1974 في حفل تخرج طلاب السنة الاخيرة في كليتنا وفيه عزفت فرقة موسيقية غربية إستعارت إسم الفريق الاميركي الشهير " إيغلز" إسما لها وكان أحد عازفيها طالبا معنا لكنه يسبقني بمرحلة هو عصام سعيد نعمو، وقدمت حينها أغنيتين شهيرتين لفرقة "كي سي اند سن شاين باند" "شيك يور بووتي" و"ذاتس ذي واي"، وهو ما أبرز ما علق بذاكرتي الى جانب شكل البنات من زميلاتنا الذي بدا غريبا على مظهرن في الجامعة، فثمة مكياج كثيف وتسريحات شعر غير عادية وملابس سهرة حد أنني لم اعرف زميلتنا إبتسام حين تقدمت للسلام علي إلا بعد قدمتها زميلتنا الأخرى ميسورة محمد علي. وما أبقى الاغنيتين عالقتين في ذاكرتي، ليس الطابع الموسيقي الرائع وهو ما أبقاهما على قيد السماع الى الان، بل الأداء الجميل للفرقة العراقية الذي قارب النغم الأصلي وقدمه بطريقة شديدة الاناقة والحيوية.
 

علي وامين  في كلية الطب البيطري – جامعة بغداد 1977
 
الطريق الى "قاعة الخلد"، رغم انها كانت بالقرب من القصر الجمهوري، كانت سالكة وتأخذك اليها باص نقل الركاب المرقم 15 (باب المعظم –كرادة مريم) وهي طريق كانت تقودك الى مرفقين ثقافيين فثمة المركز الثقافي الالماني(المانيا الديمقراطية التي إعترف بها العراق ليكون أول دولة يعترف بها من خارج دول المعسكر الاشتراكي)وثمة "مؤسسة السينما والمسرح" التي كانت تسمى حينها "مصلحة السينما والمسرح" وفيها أمكنني مشاهدة عرضين مسرحيين الاول هو "الثعلب والعنب" للمخرج العائد حديثا من خارج البلاد سليم الجزائري، وفيه أادى دور عمره، بنظري الشخصي، الممثل سامي قفطان والمقصود هنا دور " آيسوب" وكذلك مسرحية "باب الفتوح" للمؤلف المصري محمود دياب والتي أخرجها محسن العزاوي .
بعد ثلاث سنوات على حفل الفرقة السمفونية الوطنية في قاعة الخلد والذي في فترة إستراحته كانت الكاتبة لطفية الدليمي تتبختر سعيدة حينها بكتابها القصصي الصادر حديثا، بعد ذلك الحفل وبعد نحو خمس سنوات من تصاعد أغنيات "كي سي أند صان شاين باند" في فضاء "قاعة الخلد" وقف صدام حسين في المكان ذاته ليعلن، في مراسم اختلطت فيه "دموعه" برصاصاته، حفلة إعدام نحو نصف قيادة البعث ولتدخل البلاد حينها مرحلة هروبها السريع الى الإنحطاط الفكري والإنساني.
وقبل دخولنا والبلاد في تلك المرحلة كنا نبتكر الفرح  فعليا وليس مجرد عبارة شعرية،  كنا قلوبا شجاعة وأرواحا لا ترتبك الا أمام مشاهد النساء الجميلات، وكان النغم الرفيع يشحننا بطاقة جبارة، نغم أنيق ترنّقه فيروز في الباص الذاهب صباحا الى الكلية وفي ناديها حيث جهاز صوتي ثلاثي (راديو ومسجل ومشغل إسطوانات) حد اننا كنا نسمع في أوقات الراحة مختارات من عيون كلاسيكيات النغم العالمي فضلا عن أغنيات غربية حديثة من بينها "سيمباثي" التي صارت لاحقا قصة قصيرة للروائي والقاص فؤاد التكرلي. النغم الرفيع كان يعطر أرواحنا مثلما الرازقي أو الشبوي في حديقة بيت صديقي الاثير امين علي عودة، حيث كنا غالبا ما نجتمع لقضاء سهرة عنوانها الموسيقي اما عبد الوهاب او ام كلثوم او رقيقة الصوت والمشاعر نجاة الصغيرة، واحيانا يأتي النغم العراقي الكلاسيكي ليرنّق الليل العذب بشجن عميق لكنه كان شجنا ينعش الروح،  حد أنني كنت أغادر بيت صديقي القريب من الشارع الرئيس في حي العدل منتشيا وجذلا لاتسعني الارض بل كنت أدفع لسائق التاكسي ما يطلبه ببهجة حين يقلني الى بيت شقيقتي في البياع، أو حين اعود الى القسم الداخلي في العامرية.
ومن أمسية الفرقة السيمفونية الوطنية انبثقت لدينا رغبة(انا وامين) بتأسيس مكتبة موسيقية من الأعمال الغربية الكلاسيكية، ومن الشركة العامة لاستيراد الاجهزة الكهربائية والمنزلية والتي كانت تسمى"الشركة الافريقية" قبل تأميمها لاحقا، إشترى أمين جهاز "راديو-غرامفون" نوع " سانيو" أزرق اللون، ومن القسم الموسيقي في "اورزدي باك" إشتريت بدينارومئتي فلس أسطوانة " شهرزاد " وهي متتابعة موسيقية سمفونية "سويت" للمؤلف الروسي ريمسكي كورساكوف لتكون فاتحة مكتبتنا الموسيقية المشتركة.
والقسم الموسيقي في "أورزدي باك" يستحق حكاية لوحده،  فالسوبر ماركت العراقي الشهيروالمملوك للحكومة حينها كان يستورد أرقى الأعمال الموسيقية العالمية المطبوعة على إسطوانات تنتجها كبريات الشركات ويبيعها بأسعار معقولة تشجيعا للثقافة الرفيعة ونشرا لها. الى جانب  سيمفونيات بيتهوفن أو موتسارت، والى جانب أوبرات فيردي كان يمكن أن تجد ايضا آخر أعمال المغني البريطاني توم جونز الذائع الصيت اواخر ستينيات القرن الماضي ببغداد، مثلما هو في العالم أو آخر أعمال الفرنسي شارل آزنافور أو أعمال عبد الحليم ، فيروز وعبد الوهاب.
وتحوّل سماع الإسطوانة: "شهرزاد" التي ظلت الوحيدة لفترة قاربت أكثر من شهر، تحوّل طقسا روحيا أدمنت عليه أنا وصاحبي، وغالبا ما كان ذلك الطقس يبدأ من عودتنا من الكلية عصرا إذا كان هناك إمتحان في إنتظارنا في اليوم التالي أو الذي بعده، فأخرج الإسطوانة من غلافها الموشوم بتخطيطات تدل على "الجوهر الشرقي" للعمل الذي كتبه كورساكوف في محاكاة إعتبرت أحياء لشهرزاد وحكاياتها المنبثقة من " الف ليلة وليلة "، وما أن تبدأ النغمة الاولى للكمان التي تتلوى كجسد إمراة ثم يعاد عزف الجملة الموسيقية ذاتها عبر أحد الابواق، حتى كانت ضحكة أمين الساخرة تبدأ فلا مجال حينها لمصطلحات " البارسايتولوجي" أو "الباثولوجي" ولا مكان بالطبع لمكونات الادوية وأوزان المواد الداخلة في تركيبها، فترمى أوراق المحاضرات جانبا ليبدأ أمين واحدة من عملياته الشهيرة في الإستيلاء على بعض مما يحتويه الخزين "الستراتيجي" لوالده من الويسكي الفاخر، حين كان يسحب بابرة "ديسبوسابل" كمية تكفينا ثم يحقن كمية مماثلة لها من الماء في القنينة "السرمهر" عبر غطاءها وبطريقة حاذقة لا تترك مجالا للشك عند والده الذي بدأ يشكو لاحقا من "خفة" في شرابه لكنه كان يشتم حينها "غش" الشركات المستوردة الى أن "قفش" أمين متلبسا بالجرم المشهود. ومع الجرعة الأولى يتدخل الأثر الساحر للشراب مع اللحن الخالد في "شهرزاد" وتنثال بيننا جنيات الشعر وحكايات تتدخل فيها غاوية شهريار بآثار من نساء كن يطرقن على زجاج حياتنا الصقيل واللماع تلك الايام، وترتفع بنا الأنغام دهشة روحية تلو دهشة، حد ان الأوركسترا حين كانت تعزف بمعظم آلاتها الحركة الموسيقية الاخيرة والتي كانت "تمثل احتفالا في بغداد على شاطىء دجلة فيما سفينة محملة بالنفائس تمضي جنوبا لكنها تتحطّم على صخرة في البصرة" كانت تطيح بنا من علياء متخيل الى إرض غرفة الإستقبال التي تكون حينها أقرب الى عتمة بنفسجية من غروب محبب وبهيج.
في السنة الرابعة لدراستنا بات بامكاننا توفير بعض المال لا سيما ان مخصصاتنا التي كانت تمنحنا أياّها الحكومة كقروض مستردة بعد التخرج، أصبحت تزيد على مصروفنا الشهري، وهو ما وفّر لنا الفرصة بان نقتني المزيد من الأسطوانات ونشتري قناني ويسكي أيضا دون الحاجة الى عمليات أمين في الإنقضاض على خزين والده. إقتنينا السيمفونيات الثانية والثالثة والرابعة لتشايكوفسكي و"السيمفونية الفانتازية" للمؤلف الفرنسي هيكتور برليوزوأنتقلنا من شراء الويسكي العادي الى الفاخر "أولد بار".
إنسحبت"شهرزاد" قليلا من أجواء احتفالنا بالنغم الرفيع، ففي السمفونية الثانية لتشايكوفسكي قوة روحية تبدأ من أبواق النشوة والإنتصار وتمتد الى رقة الكمانات التي تبدو كالارواح المنكسرة، وفي هذا الإمتداد من المشاعر وجدنا صدى لما في روحينا، فثمة تحولات إجتماعية وثقافية كبرى (أبواق النشوة والانتصار) كنا نحياها مثلما هو المجتمع العراقي بعامة تلك الايام، الى جانب إنكساراتنا الروحية(رقة الكمانات): علاقتي العاطفية الأولى في الكلية وقد انتهيت منها لاصل الى أخرى كانت محكومة بأكثر من مستحيل، وإنتظار أمين لحبيبة تخرجه من "حياده الإيجابي" عاطفيا.
أما "السمفونية الفانتازية" لبرليوز فقد لامست جوانب روحية في تكويننا لعدة اعتبارات، فهي تحكي عن فنان موهوب بالحيوية والخيال  سمّم  حياته عبر إدمانه "الافيون" وسقط في "أعماق اليأس" بسبب علاقة حب ميؤوس منها، وكلانا أقرب الى تلك اللحظة: قصص حب ميؤوس منها فيما أرواحنا تمضي الى إجتراح أشكال فنية وأدبية في التعبير عن مخاضات عميقة تعتمل داخلها، فانا أميل الى كتابة الشعر ونقده، وأمين يميل الى الرسم والتخطيط وكتابة مقالات فيها مقدمات جريئة وشخصية عن قراءة النفس البشرية. كما ان لعمل الموسيقار الفرنسي ميزة خروج على الشكل التقليدي (وهو ما كنا يلامس توقنا الى التجديد) فهو بخمس حركات بدلا من اربع (الميزة التقليدية الثابتة للسمفونيات).
في الحركة الاولى "أحلام ..عواطف" حيث بساطة النغم ورقته في تصوير مدهش لاحلام الفنان الموهوب الشاب وعواطفه، كنا نبتهج أنا وامين كأن برليوز يداعب مشاعرنا الشخصية،  اما في الحركة الخامسة التي تأخذ السامع الى المقبرة التي انفتحت لتطوي قلبا كان مفعما بالأمل وتواقا للحياة،  فكان "الكلارنيت" المنفرد يأخذنا فعليا الى هاوية سحيقة من الألم كأننا كنا ندفن كثيرا من ملامح قصصنا العاطفية الحزينة النهايات.
وكان لمقالات الاديب الراحل غانم الدباغ، والباحث والمترجم نجيب المانع، والباحث الموسوعي علي الشوك عن الموسيقى تأثيره في تعميق معرفتنا بالموسيقى وتذوقها، وصلتنا بالنغم الرفيع تعمقت بعد ان أقنعنا زميلنا وليم (بعدنا بمرحلة دراسية) بشراء ما تضمه مكتبته الموسيقية من إسطوانات كان أغلبها من إنتاج روسي وهو ما صعب علينا متابعتها جيدا، فكنا نحمل بعضها الى من يجيد الروسية من أساتذتنا (بينهم استاذ مادة الأمراض المعدية وكان مصريا)، ليترجم لنا أسماء الأعمال الموسيقية ومؤلفيها،   ولنكتشف لاحقا ان كنزا وقع بين أيدينا رغم الثمن البخس الذي تقاضاه وليم عنها والذي كان يستعد للهجرة من العراق دون أن ينسى سرد حكاية " فانتازية" تشبه قصة شراءنا لاسطوانته، فهو حكى لنا قصة عن سماعه للموسيقى الكلاسيكية في بساتين قريته المسيحية الواقعة بين سفوح جبال دهوك في كردستان، وكيف كان يشغل الغرامفون تحت شجرة قرب ساقية، وما ان تتعالى الأنغام حتى تبدأ طيور من كل نوع تهبط لتدور مندهشة قرب الجهاز الموسيقي الساحر! صدقنا الحكاية الفانتازية تلك إكراما لعدد كبير من الإسطوانات بدنانير قليلة.  
كل هذا وغيره من جمال الموسيقى وأنغامها الرفيعة كان يضمه بيت أنيق مرهف في حي العدل، بيت مشرع على الهواء النقي المعطر باثر من"جوري"و"رزاقي" و"شبوي" وقداح أشجار الليمون والبرتقال، بيت كان يؤدي في نهاية شارعه الى بيت المحامي علي العلوي ومنه تعلمت، وان كان أمين أكثر مني، هذا الولع الآسر باللحن الكلاسيكي وتحديدا الشرقي منه، فالرجل كان يضع في بيته كنزا حقيقيا، كنزا آخر غير منظور من كنوز العراق الروحية الفاتنة، انه مكتبة موسيقية يبدو وصفها بالنادرة وصفا متواضعا، ومن تلك المكتبة التي جلت مبهورا في جنباتها مثلما سحرني صاحبها بفرادته الروحية والاجتماعية: مفكر على طريقته الخاصة، أعزب ووحيد ويفخر بصداقته لابي الفكر الماركسي في العراق حسين الرحال. من مكتبة المحامي علي العلوي كان لامين وعبره كان لي ان أغرف من فيض النغم: تسجيلات نادرة ومتعددة لعمل غنائي رصين، حفلات خاصة شهدها بيته أو بيوته قبل أن يصل الى حي العدل، ومنها حفلات لاسماء موسيقية وغنائية شهيرة كقارىء المقام العراقي يوسف عمر والمطرب ناظم الغزالي وغيرهما. وكعادة العراق في الفتك وبلا رحمة بأهله الجميلين النادرين الرقيقين المحبين، فقد وجد الرجل العلوي ميتا آواخر العام 1979 في فراشه وآثار ضربات بسلاح أبيض على عنقه ورأسه، الرجل "الكنز الموسيقي والروحي والفكري"عثر عليه الجيران ميتا بعد أن غابت سيارته عن كراج البيت وفاحت رائحة دلت على تعفن جسده. وبالطبع نهاية كهذه تعني نهاية مشابهة إن لم تكن أكثر سوءا لكنزه من عيون النغم الموسيقي الرصين.
بيت صديقي امين كان يشهد عمارتنا الروحية، ونحن نشيدها أنغاما وكتبا ونقاشات فكرية جادة وطرائف وسكرات لذيذة ورحلات مع طلبة الكلية أو بدونهم أخذتنا الى مسافات بعيدة، فضلا عن دراسة علمية صعبة ايضا، فلا يمكن نسيان سفرتنا الخيالية في شباط 1975 من بغداد الى البصرة عبر القطار حين إستأجرت كليتنا عربة قطار كاملة كي يقضي من يختار من الطلبة قضاء العطلة الربيعية في البصرة، فرسم السفر كان شبه مجاني فيما المنام توزع بين اقسام داخلية في جامعة البصرة التي كانت خالية تلك الأيام فطلبتها سافروا الى ذويهم في المحافظات الاخرى. ولان كل واحد من صحبتنا إعتمد على الآخر في ترتيب عدة السفر موسيقيا، لم ترافقنا في رحلتنا الليلية الفريدة تلك غير أغنية تضمنها "كاسيت" وحيد كان جلبه زميل من خارج مجموعتنا، الا انه بدا الزاد الموسيقي الوحيد في ليلة لم يهدأ فيه القطار لحظة حتى أول الفجر حين كان القطار بدأ يخترق حقل الرميلة شمال البصرة. كانت الأغنية لام كلثوم "ليلة حب" وبدت الى اليوم راسخة في ذاكرتي لفرط ما تكرر سماعها طوال عشر ساعات تقريبا فهي الوحيدة وكان لابد من تكرارها حتى وان بدأ النوم يتسلل الى العديد من الاصدقاء والصديقات، والطريف ان المسافة ما بين  نهاية اغنية ام كلثوم ونهاية الشريط كانت ثمة ثلاث اغنيات لفيروز بينها اتذكر اغنية "شادي" التي جاء صوتها منسجما مع خيوط الفجر الاولى وهي تلامس زجاج بارد لنوافد عربة القطار. وفي البصرة حين وصلنا تداركنا فقرنا الموسيقي والغنائي عبر جهاز إستعرته من إبن عمتي مدرس اللغة العربية الأريحي حسين هادي محمود الجنابي ومجموعة من أشرطة لفيروز ومختارات موسيقية أجنبية بينها أنغام من نمط "الموسيقى الخفيفة" وإن كانت موزعة للاوركسترا الكبيرة كما في أعمال المايسترو الفرنسي الشهير بول موريا (Paul Mauriat ) ومنها عمله الجميل المحلق بالمشاعر " Love is blue " فضلا عن إغنيات مأخوذ بعضها من أفلام ناجحة كما في "لوف ستوري" أو المقطوعة الفرنسية الشهيرة"مونا مو" وفي أغنيات اليوناني الذائع الصيت حينها في العراق والعالم ديمس روسزDemis Roussos  الذي كان احيى في العام 1976 بملهى الطاحونة الحمراء ببغداد عددا من الامسيات) ومنها اغنيتاه الرقيقتان Forever and ever  و good bye my love good bye .
كل هذا التنوع (لا يحبذه أمين المولع بالنغم الشرقي) وجدته في شارع "المغايز" بقلب العشار المركز الحيوي التجاري والثقافي والانساني للبصرة التي كانت تستحق حينها تسمية "ثغر العراق الباسم". ومثلما ارتبطت معنا أنا وأمين تحديدا اغنية "ليلة حب" بلحنها البهيج والذي أبدعه الراحل عبد الوهاب، إرتبطت معنا أغنية فيروز " دخلك يا طير الوروار"حين إنفتحت سفرتنا الى الجنوب من البصرة وتحديدا في واحدة من جنائن العراق: بساتين وأنهار وجداول قضاء "ابو الخصيب"، فكانت ترنيمة فرح لازمتنا ونحن نخطو على طريق ظل يتلوى عبر أحد البساتين وصولا الى نهر شط العرب حيث كازينو حملت الينا في مشهدها الجميل متعة ضاعفتها  متعة كأسين من البيرة .
وحين أستعيد اليوم الاتصال بامين بعد انقطاع نحو عامين بسبب نوائب العراق ومصائبه  
أستعيد ايضا تلك الروح الغامرة، بل صوت فيروز يتصاعد بيننا "رجعت ليالي زمان" أو نبعها في غناء القصيدة على الطريقة الرحبانية والذي تعرفت بعمق على مكنوناته الشعرية واللحنية والصوتية المختلفة عبر أمين المولع بقصيدة "غنيت مكة"، وهذا يتصل أساسا بعمق ذائقة الموسيقية الشرقية عنده ، فهو حين التقينا في أول سهرة بعد نهاية الحرب العراقية الايرانية لم يحبذ الروح التجديدية الكلية التي جاءت عليها مجموعتها الغنائية " معرفتي فيك" وظل صافي الأسماع لجهة التشبث بالنغم الشرقي ويخشى إستبدال التدفق العاطفي في "راجعين يا هوى" او " ليالي الشمال الحزينة" بتجريب زياد رحباني اللحني ضمن ما عرف بـ"الجاز الشرقي".
بيت القاضي علي عودة، كنت فيه أكثر من مجرد صديق للإبن الأكبر فيه، بل وجدتني أعود اليه في مرات عدة باشتياق العائد الى بيته الشخصي بعد غياب، فقد عدت اليه مرات ومرات لاستعادة البهجة التي انطفأت أو كادت مع توزعنا أنا وأمين في خنادق الموت وفخاخه خلال الخدمة العسكرية الطويلة التي تزامنت مع الحرب العراقية الايرانية، ثم مع تشتتنا في خطوات العمل بعد نهاية الحرب ولقاءاتنا التي كانت تنعش أيام التكوين الفكري الشخصي بعيدا عن اطر السياسة الحزبية التي انتظمنا فيها لفترة،  وتستعيد النغم الرفيع والصدق الانساني الأرفع الذي جبنا من خلاله مراحل الإنتقال من المراهقة الى نضج روحي وحياتي تعمق لاحقا حد ان أمين تزوج صديقة زوجتي وان كان ذلك بعدي بنحو عام، وانجبا عليا إبنه قبل ولادة إبني سلام بعام. بيت تعالت فيه ضحكاتي مجلجلة مثلما انسكبت فيه دموعي ومنه خرجت حائرالخطوات لكنها لم تكن منكسرة يوما بل كانت خطوات ندية كأنها على موعد للعودة من جديد.
بيت كان يشهد فرحي وإنكساري الروحي ايضا، بيت حين عدت اليه بعد نحو عقد من هجرة خارج البلاد وعمل فكري وسياسي معارض للنظام السابق ، إستنشقت في ارجائه وعلى الفور العطر ذاته الذي لطالما إتسع صدري له، كما ان أمين ورغم سنوات الرعب والالم والهجير بدأ في ترتيب المائدة كأننا نستعيد سهرتنا من اليوم الماضي وكعادته دون ان ينسى ان يزيد كمية "خيار الماء" باعتباري أكبر "قارض خيار" كما كان يصفني إنطلاقا من معجم توصيفاته الساخرة المحببة. صحيح ان حديقة البيت شاخت معالمها، صحيح ان الاطفال صاروا شبابا، صحيح ان بغداد حينها كانت كسيرة الظهر، صحيح ان أعمارنا بدأت تقارب الخمسين لكننا إبتهجنا كما لو كنا عدنا للتو من الكلية قبل ان نبدأ جولة مسائية قد تأخذنا الى شارع 14 رمضان والمنصور ومتعة التجوال او التوجه الى ساحة الميدان للقاء اصدقاء اخرين قبل الانطلاق في باص رقم 4 او 2 وقضاء بهجة الليل في بار "ليالي السمر" او "الفارابي" في شارع ابو نؤاس.
في أيامي الاولى في بغداد ما بعد صدام كنت أختلس الوقت كي أصل الى امين وأغرف من نبعنا الذي ظل صافيا وإن تكدر قليلا حين صدمت بصديقنا المشترك الذي راح يمضي في توجهاته الاسلامية المتشددة وصولا الى نبرة كراهية وتحريض على العنف بدأت تتصاعد من حديثه، فكان ذلك بمثابة رصاصة رحمة على نص كتبته مبتهجا في مديح الصداقة، وأعتمدت فيه على إتصال دلالي بين صورتين جمعتنا نحن الثلاثة: صورة لنا في العام 1977 حين كنا في السنة الرابعة من دراستنا الجامعية وأخرى لنا نحن الثلاثة ولكن في العام 2003 وأمام مطبعة "ابو رمزي" في الكرادة حيث كنت أطبع فيها الصحيفة اليومية، التي أشرفت على اصدارها وتحريرها لتكون الصحيفة اليومية الاولى بعد سقوط النظام .
الوقائع السود تتقدم في بغداد سريعا مع تقدم العنف ليكون صاحب الصوت الأعلى، ومع مفخخاته وحوادث الاغتيال كانت الطريق الى بيت أمين في "حي العدل" بدت غير سالكة دائما، وجاء إغتيال أخي قاسم ليضع حدا ليس لربيعي الشخصي بل ليصبح متزامنا مع نهاية ربيع البلاد الذي بدا قصيرا للغاية.

علي وامين امام بيت الاخير في "حي العدل" ببغداد 2003
 
آخر ليلة لي في بغداد كانت حملت شيئا من أجواء صيف 2004 وكان شيء من تلك الليلة في بيت أمين .. ليلة مرتبكة لا نغم فيها .. ليلة وداع قاس هذه المرة، ليس لأمين بل لبيت من الذكريات الحية والمؤثرة. كان حينها القاضي العصامي والانسان العصامي (علي عودة) تعرض الى نوبة قلبية أقعدته الفراش وهو الحيوي المدهش ليرحل بعد عامين، وكان حينها قلبي يرتعش والرصاصة التي اخترقت رأس أخي قاسم كانت تتشظى في داخلي، حد أنني كنت أقرب الى الممزق الأوصال وأنا أعانق صاحبي على الباب ذاتها التي لطالما جمعتنا على لحظة وداع أو لقاء.
وصلت أميركا ولكن رقم الهاتف الذي ظل دائما حاضرا في ذاكرتي ولم أدوّنه يوما ما، ظل يوصلني الى صديق العمر، وكانت الضحكات أحيانا، والشهقات أحيانا اخرى تجمعنا، حتى وقت بدا فيه الهاتف رنينا بلا جواب، وتكرر الامر على امتداد نحو سنتين من البحث اليائس عن وسيلة أصل من خلالها الى من أودعته أجمل كنوزنا الروحية. وإنتظاما مع هواجسي التي تذهب الى توقع الاكثر سوءا، فقد رسمت سيناريو مأخوذ من وقائع الحرب الطائفية التي تتقدم أسلحتها لتكتسح بغداد: بيت "عائلة شيعية" في حي العدل يعني تهجيرا مؤكدا إن لم يكن الاسوأ. البيت الوادع ،الآمن، الظليل، مفتوح النوافذ على المحبة بات في مرمى نيران الكراهية، يا لذكرياتنا، يا للجمال في أيامنا وقد صار هشيما.
سيناريو هواجسي تطابق مع الوقائع، ولكن في شق التهجير دون "الاسوأ"، وصار بيت الأنغام الجميلة والقصائد والأرواح المحلقة، بيت الشبوي والرازقي والجوري والعشب الغض، بيت عافية النفوس والترحاب والوجوه الباسمة والأذرع المفتوحة، صار بيتا لعناصر حماية أحد رموز العراق الطائفي.
الآن أدخل البيت الروحي ذاته وأسمع "شهرزاد" حيث الأوركسترا تعزف بمعظم آلاتها الحركة الموسيقية الأخيرة، والتي تمثل إحتفالا في بغداد على شاطىء دجلة فيما سفينة محملة بالنفائس تمضي جنوبا لكنها تتحطّم على صخرة في البصرة، الان سفن ذكرياتي مثلما أيام صديقي  تتحطم على جلمود وطن كالصخر. 
* النص نشر في موقع"كيكا" العام 2007


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM