بغداد 1978 - 1979 : الضياع الجميل

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       24/08/2011 06:00 AM


الى صباح الحلاق
 
ما بين العمل في تسجيلات "صوت الفن" و"مكتبة النهضة" لاحقا في المساء،  كان ثمة وقت من أوقات الضياع الجميل ميزت قسما من حياتي في العام 1978 وقسما أكبر من العام 1979، وقت العمل لنصف نهار في مطعم "ابن ضعيفة" في الشارع ذاته الذي يقع فيه "مطعم نزار" والواصل ما بين "شارع السعدون" و"شارع ابو نؤاس"،وعملت فيه "كاشيرا" ومنه تحصلت على مال كنت أصرف منه على عائلة شقيقتي الارملة وابذخ منه على ملذات كانت تعويضا للخراب الذي وصلت اليه قناعاتي الفكرية حينها والقريبة من الماركسية وان كانت تضيق بالتنظيم السياسي: الحزب الشيوعي.

في محل "صوت الفن" العام 1979
إعتنيت حينها بملابسي وأشتريت الأغلى من "بابيت" قمصانا وسراويل جينز وعطورا كان من بينها الاجدد:"اراميس"،وتعرفت على صحبة لا الذ ولا اروع من اناس عاديين،لا هموم جدية ،مثلي، تشغلهم عن حياة بسيطة وعادية وامنة،تعرفت على نساء حقيقيات من بينهن من اخذتني الى المدينة السياحية في الحبانية التي كانت افتتحت حديثا مكانا يبهج الروح ويسر الناظر، عرفت معها لذة الجسد بعد ان كانت المرأة عندي صديقة للروح وحسب، وهي عرّفتني الى الادارة الفرنسية للمدينة، (كانت مشرفة على ادارة البيوت السياحية داخل المدينة)، بوصفي "اكثر العراقيين معرفة بالموسيقى الغربية المعاصرة"، وهم( الفرنسيون) وجدوا في ذلك ضالتهم فاشتغلت "دي جي" طوال ليال في ديسكو فندق المدينة ونجحت في عملي كونني كنت على صلة بما يحب العراقيون سماعه من الاغنيات الغربية الناجحة، وكنت من خلال مراقبتي للجمهور وازيائه وملامحه اعرف مزاجه وذوقه فاقدم له ما يرضيه وما يبهجه من اغنيات وموسيقى. كانت تلك فترة امتدت من نيسان 1979 حتى شهر أيلول موعد التحاقي بالخدمة العسكرية في "مدرسة الطبابة العسكرية" ببغداد، و صدر بعد شهر أمر نقلي الى واحدة من الوحدات البيطرية في أربيل.
مال ولذة وسهرات وموسيقى وبهجة كنت أغرف منها حد الثمالة، وتمتد لصداقات كان ابرزها مع صباح الحلاّق، أحد نجوم الحلاقة الرجالية الاشهر في بغداد، حلاق "الصالون الاخضر" في الباب الشرقي وتحديدا في الجزء الاخير من شارع الرشيد حين يتصل بساحة التحرير، وهو بالاصل كان صالونا صغيرا فوق الصالون الاصلي،  جذبني اليه اسمه منذ ان كنت في السنة الثالثة من دراستي الجامعية، وزاد من تواصلي معه ان صاحبه وحلاقه الوحيد (باسم) كان مثقفا وعلى معرفة بالفكر الانساني فهو طالب سنة اخيرة في كلية القانون، وبسبب نجاحه المهني اشترى باسم الصالون الاصلي واصبح اسم " الاخضر" شيئا دالا على مهارة وحرفة عالية في فنون قصات الشعر وتوسع في عمله فاستعان بحلاقين شبان من بينهم صباح الذي أصبح وما يزال واحدا من اعذب اصدقائي. وكان صباح هو الذي "اصطادني" حين دخلت الى الصالون اسال عن باسم كي يقص لي شعر رأسي، فأخبرني بانه سيتولى الامر وساخرج من بين يديه بنتيجة تسرني، وهو ما كان،  ولتتوطدد صداقتنا خلال فترة عملي في دائرة لا تبعد سوى أمتار عن موقع الصالون ومحيطها بالكادر يتجاوز محيط "ساحة التحرير".
ما شدني الى صباح لا مهاراته في الحلاقة وذوق تنم عنه ملابسه وتسريحة شعر ووسامته فحسب، بل في الطريقة التي كان يعلق فيها الزبائن حين كانت صديقاته يأتين اليه وينتظرن قريبا من باب الصالون، فمرة يحوّل الزبون اذا كان جديدا الى حلاق اخر لم يكن قد انشغل بعد، أو أن يتعذر بطلب عاجل من عائلته ليترك الرجل منتظرا نصف ساعة اواكثر احيانا حتى يعود اليه منتشيا بعد "نشوة عابرة" لا احد يعرف كيف كان يصل اليها وسط كل هذه الفوضى والانشدادات والاكاذيب الصغيرة.
في فترة استراحة تمتد ما بين الثالثة والرابعة عصرا كنا نلتقي في "مطعم نواقيس" حيث ظهريات البيرة الباردة و"الكص"و"الكريم جاب" او "الكباب"، ثم نفترق الى اعمالنا حتى اصل الى الصالون في التاسعة مع استعداد الجميع للانتهاء من العمل، ونبدأ لا حقا رحلة ليلية جديدة كانت تبدأ عادة مع "فيتامين" المطعم الصغير والانيق في شارع السعدون، ولكنه المقتصر على رواد معدودين يعرفون المكان والمشتغلين فيه والذين بدورهم يعرفون الرواد بالاسم ويقدمون اليهم لذائذ البيرة والطعام مع ابتسامات الرضا.
ومن مباهج "فيتامين" كان ليل بغداد يرّق ويتسّع لحشد من السهرانين الباحثين عن لذتهم كل على طريقته، ومن المطعم الصغير تبدأ سهرات لا أحلى ولا أروع ، ودائما كان صباح يفضلها في " الطاحونة الحمراء" وفيه تغيرت معرفتي بالصورة التقليدية التي كنت أرسمها وأحفظها عن الملهى الليلي فاكتشفت ان المكان الذي أحيى فيه نجم الاغنية الغربية في السبعينات ديمس روسسز عدة حفلات ، هو مكان ما يزال منفتحا على فنون الاستعراض الغنائية والراقصة، فثمة فرق من فرنسا واليونان والارجنتين كانت تقدم أشكالا استعراضية راقية تجمع الموسيقى بالرقض الحديث حد انني فوجئت بامكان محجوزة لعوائل بغدادية راقية كانت تحضر لمشاعدة تلك العروض وفنونها رغم الطابع المثير للنساء اللائي كن يكشفن عن أجسادهن بكرم باذخ. بالطبع هذا لم يمنع من ان تأخذنا ليالي السهر تلك الى أمكنة أقل رقيا من " الطاحونة الحمراء" الذي إستعار اسمه من النادي الليلي الفرنسي الشهير"مولان روج" مثل "ملهى امباسي"في منطقة المسبح و"ملهى سيلكت"في شارع السعدون وتحديدا في "ساحة كهرمانة".
كنت أعود في الثانية فجرا الى بيت شقيقتي في " البياع" أو أبيت ليلي مع صباح في بيت عائلته المطل على "ساحة ميسلون" ونقضي وقتا قبل النوم لنسمع أغنيات وموسيقى تبدأ من ديمس روسسز ولا تنتهي بناظم الغزالي، لأصحو على صباح ونهار ينتظرني فيه وقت اخر من الضياع الجميل بين العمل والنساء والخمر والقليل القليل من الدراسة، ولكن ثمة دائما ما كان يوخزني وأدير له ظهري: كتبي وأوراقي وقصائدي ودائما نظرة أمي العاتبة كأنها تقول:  مالذي قد صنعت بنفسك؟ غير ان ما أمسك بي وخضني بقوة هو ما حصل لي في "مطعم نواقيس" ذات عصر، فبينما كنت أنتظر صباح وصديقه الحلاق ايضا (صلاح) كي نبدأ فترة الاستراحة بشيء من الشراب والطعام، كان يجلس في مائدة مقابلة لي رجل يقرأ في عدد من مجلة " الثقافة" التي كنت نشرت فيها مقالتين او اكثرقبل نحو عام، وحين وضعها الرجل جانبا لم أقاوم رغبتي بان أطلعّ على ما فيها،  فاستأذنته ورحت أقلب صفحاتها، واذا بمقالة لي منشورة في باب مراجعات الشعر! وجدت الحروف غريبة علي، وتعجبت مما تضمنته المقالة من أفكار: أحقا أنا الذي كتب هذا؟ أين أنا الآن من هذه الإضاءات الروحية والفكرية التي تجسدها السطور وأين ..وأين ...؟ أغلقت المجلة ولكنني ودون أن أدري ظللت محتضنا إياها ساهما في تأمل عميق لم أخرج منه الا بعد ان طلب الرجل مجلته ومضى!
صباح توسع في عمله ليفتتح صالونا خاصا به في نفق ساحة التحرير الذي كان زاهيا ببلاطاته الغرانيتية المتموجة بين البرتقالي والوردي الغامق، وأطلق على الصالون الجديد اسم "حلاقة الفنانين" فانشغل أكثر في عمله الذي شهد توسعا أكبر حين انتقل الى الكرداة داخل والى جانب صالونه الرجالي الشهير افتتح "صالون فرح" لتصفيف شعر النساء وتزيينه، فيما أنا أخذتني الخدمة العسكرية لكنني كنت حريصا على ان اربح وقتا من المرح والبهجة مع صديقي بين اجازة دورية واخرى حتى نيسان من العام 1984  حين زرته تلك المرة لاقص شعري ظهرا ومنه اتوجه الى شقة خطيبتي في شارع السعدون واصطحبها من هناك في "زفة عرس" الى المدينة السياحية في الحبانية.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM