أبعد من كلام في الموسيقى

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       14/01/2011 06:00 AM



أبعد من كلام في الموسيقى ...أقرب الى استعادة حلم بغدادي مبدد

الى:لطفية الدليمي

هل كان ذلك محض صدفة؟ أن أنجذب الى عوالم خارج السياق الذي كانت تنضوي فيه حياتي : أن اذهب الى نتاج فني لم أتشكل في بؤرة تفاعلاته الحيايتة والاجتماعية،  لكنني وجدت نفسي في تدفق تياراته وبواعثه الاساسية وظواهره الاكثر تحديثا.
مالذي جاء بي الى لقاء" الاغتراب" الأجمل من حلم ؟ كيف انتهيت الى هذا التعايش الحميم بين صخب حياتي الذي سببته حروب ومخاوف وبين محبة للانغام ستتحول غواية وجدتني ازداد انغماسا فيها حدّ انها اصبحت دلالة عليّ، إسما ومعنى!
انها الموسيقى، غناء أو ألحانا صرفة " الموسيقى البحتة" وباشكالها الاكثر تحديثا، وبالذات تلك التي ينتجها(الآخر) وما تتضمنه من رسائل تبث الى بقاع العالم المختلفة، او حين تكون لحظة مختصرة للتعبير عن جوانية غاضبة احيانا، متأملة قليلا، ولكنها "مغايرة" في كل الاحوال.
هو "اغتراب اجمل من حلم" ، بدأ من نغمة راقصة في اغنية Yellow River في العام 1970 وجدت صدى في ذائقتي المتقلبة وتطلعاتي التي كانت تتوزع حينها بين رغبات من نوع :ان اتحول الى المسيحية رغم انني من بيت وثيق الصلة بالمرجعية الشيعية، او " التطوع" في المقاومة الفلسطينية، او وضع علامات " الهيبيز" على مواقع من ثيابي او احذيتي.
واذا كانت الغيمة الرومانسية في اغنيات فيكي لاندروز تحط قريبا من اكتافي ، فان اغنية She is a lady  لتوم جونز كانت كفيلة بفوران لحنها ان تدفعني الى عالم حسي بدأت من خلاله اكتشاف الجسد الانثوي ومباهجه، حد انه ذلك الاكتشاف بلغ جماله المطلق مع اغنية Venus  التي رقصت على لحنها الايقاعي الرشيق صحبة فتاة جريئة في مرقص مفتوح كانت توفره كازينو "لونا بارك معرض بغداد الدولي" . بغداد يومها مدينة مفتوحة وقلبها منتعش بالامل ولن انس ما حييت ملامح مراهقة جميلة كانت تسال في محل لبيع الاشرطة الموسيقية بشارع السعدون عن اغنية Sex Machine  للمغني الاميركي جيمس براون.
 كان ذلك في " اعدادية المأمون" 1970-1973 حين تعرفت الى شبان مهوسين بالنغم ، ومعهم اكتشفت ثراء روحيا في اغنيات "البيتلز"، ومن خلال بوابة الفريق الانجليزي الشهير بدأت صلة بالانغام بوصفها قراءة اجتماعية.

علي عبد الامير في اعدادية المأمون 1971
 
هل لاحلامي تلك ان تشيخ اذ استعيدها اليوم بعد اكثر من ثلاثة عقود ؟ ها انذا اشكل تاريخا شخصيا لبغداد من خلال الموسيقى وتحديدا الموسيقى الغربية المعاصرة، غير ان الامر ليس مجرد حكاية نغمية ولا مجرد استعادة نساء تغمرهن عاطفة وهاجة او بهجة رجال انيقين وهم  يخرجون من حفل موسيقي شهدته بغداد اواسط سبعينيات القرن الماضي للمغني الظاهرة في حينها: ديميس روسيس !
واذا كان الامر صعبا فكيف لي ايضا ان انسى الاتصال الذي بدأته اواخر السبعينيات تلك مع الحان الفريق الغنائي Pink Floyd : الحان غاضبة، طبول مرعبة واصوات مجروحة؟ وكيف لي ان اخفف الصدمة التي حملها غلاف احدى اسطواناتهم، الصدمة التي استوعبت علاماتها وتطامنت لاحقا مع اشاراتها: ثمة رجل وسط  الشارع، يمد يده مصافحا توأما له ولكنه كان يحترق ؟ من تلك المفارقة البصرية بدأت ادخل "الجانب الاخر" من عالم "البوب" الجانب الاكثر عمقا والذي يختفي تحت سطح الاعلانات المبهرة والظواهر الرائجة، وبدأت الاحق قصائد الغضب وبوسترات الاحتجاج ضد اغتراب يكاد يعصف بالانسان المعاصر- الم يعصف بعد؟- ، ومن بوابة "الغضب" الموسيقي بدأت تتهشم رومانسية المحبين في قصائدي لصالح موضوعات اكثر تركيبا واعمق رؤيا ودلالة، هكذا وجدتني انخطف ببنية السؤال كمؤشر وعي مختلف وطريقة مختلفة في الكتابة فرميت بالتفعيلة متجها نحو " قصيدة النثر" التي كنت اتصلت بنماذج "اصيلة" منها في مجلة "شعر" الممنوعة من التداول في الاسواق ،غير انني عثرت عليها في "المكتبة المركزية" التابعة لجامعة بغداد. واذا مثل هذا الانتقال "نهاية" للتوافق الذي كانت وصلته قصائدي الاولى مع الوقائع الشخصية المتصلة بقوة مع حال الانفراج الفكري والسياسي الذي كانت عليه الحياة العراقية حتى اواخر  السبعينيات، فان سقوط " الوثنية اليسارية" في تركيبي الفكري الشخصي دفعني بقوة الى شكل شعري يناسب الانهيارات الواقعية .
في السنوات الاخيرة من السبعينيات كانت"البحبوحة" الاقتصادية تتسع في بحيرات عسلها، والنفوس كانت تستكمل بناء فلل عزلتها كلما ازدادت نهما في مقاربتها الحياة، كأن السلطة انتهت من وضع معادلتها :دعهم لسعاداتهم ولتضيق المرافىء بالاعتدة. تلك كانت لحظة لحظة التشييع الرسمي لجنازة المعنى ،ونزول الستارة على "مسرحية" الانفتاح اليساري التي اضفت طابعا دراميا على صفقة مستحيلة بين فكر استغرق في احلامه كثيرا وعقل تدميري يجيد المراوغة والتلفيق والحذلقة وقبل ذلك يجيد بناء دهاليز الموت .
لم يعد النغم "مثاقفة"، ومع المسار"التراجيوميدي"ذهبت الى اختيار بهجة ما في الموسيقى الغربية المعاصرة تعويضا عن خسارة روحية وفكرية ، فجاءت اسطوانةSaturday Night Fever  للفريق الغنائي Bee gees   لتفتح في بغداد وعواصم كثيرة في العالم "العصر الذهبي" لايقاع الديسكو، فتعالي ياانغام المراقص المجنونة، تعالي ايتها الاذرع، تعال يا خصر امرأة مبتهجة باولى تجاربه في الثمالة. ولانني شخصيا مزيج من ملاك متعبد وشيطان داعر لذا احببت اغنيات الفريق السويديABBA التي تتوافر على مثل هذا المزيج فمن الايقاع الراقص في Dancing Queen الى اغنية حالمة حافلة بالمعنى الجميل مثل I have a dream، ومن ايقاع كان يهز جسدي بنشوة كما فيVoulez Vous الىThank You for Music . وكم اخذتنا ليالي بغداد في فتنتها ، كم رقصنا ،كم ثملنا على ايقاع من محبة ووفاء نادر تلك الايام ، هزتنا حد الجذل انغام هادئة مثل How Deep Is Your Love? او Happy New Year في ديسكو "فندق ميرديان" او "فندق ميليا-المنصور" وابهجت ارواحنا ايقاعات راقصة في "ديسكو الخيمة" بالمدينة السياحية في الحبانية يوم كانت رئة نظيفة لتنفس البهجة وقبل ان تسيطر عليها وحوش التكارتة من ابناء صدام وعائلته وحماياتهم، فكم رقصنا برشاقة على ايقاعات "الريغي" بحسب ما صاغه المغني الجامايكي الذي صار اسطورة بلاده وفنون الكاريبي الموسيقية بوب مارلي، فضلا عن اغنية للفريق الانجليزيHuman League  كانت تتفجر حيوية راقصة وظلت اشارة لا تمحى من ذاكرة الاغنية الغربية في عقد الثمانينات الا وهي اغنية Don’t You Want Me  .


على جسر الجمهورية ببغداد 1985
 
واذا كان مزاج الليل في ذلك المكان الساحر مزاجا راقصا، فان نهاراته كانت لجلسات الاسترخاء على ساحل البحيرة الذي كانت تطير فوقه طائرات "ميغ 23"ولاحقا"ميغ 25" متجهة الى جبهات الحرب مع ايران، ومنظرها كان يفزعني فانا الوحيد من بين المجموعة من كان يعرف معنى ان يكون الانسان جزءا من الة الحرب بحكم وجودي في جبهات القتال، وذلك الاحساس كان يعلي فيّ احساسا بكآبة مرة تزيدها اغنيات كالتي تضمها اسطوانات After Dark للمغني الراحل آندي غيب او الاسطوانة الجوهرة في الحانها Guilty للثنائي باري غيب وبربارة سترايسند .
ثنائية (الملاك-الشيطان) تملكتني لجهة الكتابة،  فكانت قصائدي ملائكة يتيمة حيال قطيع هائج من شياطين الحرب، كنت اودع قصائدي في بريد مجلة" الثقافة" التي كان يرأس تحريرها واحد من اعلام الادب والمعرفة في العراق الدكتورصلاح خالص، لتطالعها عيوني منشورة في اعداد المجلة التي كنت اسرق لحظات من ايام الموت الطويلة في جبهات الحرب من اجل الحصول عليها في مكتبات العمارة او البصرة. ما كان يروض وحوش الحرب فيّ ،كانت وحوش من نوع آخر في كل مرة اعود فيها الى بغداد من خنادق الرعب وثكناته، تلك كانت وحوش الايقاعات الراقصة في سهرات كانت تنسل منها الحياة مثلما ينسل الفجر من بطن الليل البهيم، ومن بين خوار الوحوش المروضة، تنهض الملائكة فأعود الى الكتابة ولكنها مع اغلاق "الثقافة"، بدت ملائكة بلا اجنحة لتتحول شيئا فشيئا الى كائنات نائحة مثل تلك النساء النائحات في الاساطير الاغريقية .
الكتابة تذهب عميقا في انفاق عتمتها، وخطواتي تذهب ابعد الى صالات مسرة، كنت اقضي الليال الخمس او الست في كل مرة أعود فيها من الحرب بروح مثخنة بالجراح وبجسد عطشان للحياة ومن الصعب ان يرتوي، كنت اخجل ان اواجه الصباح كي لا اتطلع نحو مشهد الحفاوة الجماعية بالحرب، كنت ابتهج بالاغنيات بوصفها نسيانا او تأجيلا لسؤال كنت اريد توجيه لكل من يصادفني :اتعرفون مالذي ستأتي به الحرب؟... لم اسأل احدا لكن سيل التوابيت تولى ذلك لاحقا ، فالاسئلة بدأت تترى مع زيادة عدد اليافطات السود المعلقة على البيوت وعلى مداخل الازقة والحارات ،ولان المعاني السود تنتعش مع اتساع يافطات النعي ، فثمة محاولة دائبة لاعادة الاسئلة الى مصدرها، الى جمجمة العبث والخواء،  فوعود البحبوحة كانت تتحول بيوتا وسيارات وآلاف الدنانير مقابل غياب صاحب الجثة وضمن "حكمة" ابدية ابدعتها السلطات الغاشمات: الدم مقابل المال!
في العام الثاني للحرب وجدت نفسي وقد داستني الوحوش بلا رحمة وعبرت في جريها الذي لا يوقفه حد، فنهضت ملائكة الكتابة من نواحها الى بياض لمساتها كي تضمد جراحي، هنا ابتكرت وسيلة كي اكتب دون الخوض في معادلات الراهن الدموي،  ودائما عبر الاستناد الى ذخيرة الاغاني،  اكتب نقدا في الاغنية الغربية طالما ان مكتبتي اصبحت عامرة فضلا عن جمهور لهذا النوع من الموسيقى بدأ يتسع اعتمادا على "اذاعة بغداد FM " ، آزرني الاصدقاء ولاننا كنا نحب فريق   Bee gees اخترت اسطوانتهم الصادرة في خريف (موسم اصدارات الاسطوانات الجديدة) العام 1982 وكتبت عنها مقالة ارفقتها برسالة الى رئيس تحرير مجلة "فنون" الناقد محمد الجزائري واقترحت ان تكون ضمن عنوان ثابت تقع ضمنه قراءات لاسطوانات جديدة لاحقة ،والعنوان كان"اسطوانات الخريف الجديدة" .احزنتني طريقة اخراج المقالة حين نشرت فالعنوان كان في مكان، والمقالة نشرت- دون الصورة التي ارفقتها - في مكان آخر، لكن ذلك لم يمنعني من الاستمرار فجاءت مقالة تالية عن الاسطوانة الجديدة و"الاخيرة" لفريقABBA، ومن عنوان ضاع بين اهمال المحرر الفني والمدقق بدأت رحلة صحافية مثيرة لي مع مجلة "فنون" لم تتوقف مع مؤازرة الصديق الجزائري عند حدود الكتابة في جديد الموسيقى الغربية المعاصرة بل امتدت الى كتابة في اشكال الموسيقى الاخرى فضلا عن السينما وتذوق الشعر، واستمرت تلك الرحلة رقيقة ومثمرة حتى اغلاق المجلة في حزيران 1986(ثمة مجلة اخرى هي "حراس الوطن"ستغلق على يدي) .
في ايام بحثي عن رغوة بهجة في الاغنيات لم اعر عملا جبارا مثل The Wall للفريق الغنائي Pink Floyd،عدا ايقاع واحد ، غير ان احزاني في الحرب قادتني الى اكتشاف اسطوانة الفريق ذاته والصادرة في خريف العام 1983 ونصحني يالاستماع اليها الصديق سعد صاحب محل "تسجيلات الرواد" الذي كان حتى اواسط عقد الثمانينات الماضي من افضل بائعي الاغنيات الغربية في بغداد،  وكانت الاسطوانة حملت عنوانا رئيسا هو  The Final Cut، اما العنوان الثانوي الذي جاء مداعبا احزاني الشخصية فكان Post-War Dreams . في الاسطوانة اغنيات تنقب في ملفات الجراح الشخصية التي تخلفها الحرب :"ذكريات رجال المدفعية"،او"ازمان الماضي المحتملة" فضلا عن النقد العنيف للحروب كما في نهج ادارتي ريغان وتاتشر .
في  كتابتي عن تلك الاسطوانة وجدتني اكتب عن نفسي وعن حربي الشخصية،  كتبت عن ما يتطامن في روحي او يتبدد،  روحي المختبئة في جسد حي مدفون في ملجأ تحت الارض،  ومن تعثر لغتي في الوصف والمراجعة والتحليل الموسيقي،  وجدت الشعر ثانية ولكن في بحث آخر غير الذي اعتدته،  وجدته في لغة انفاسها متقطعة كما اشكال الجروح المتناثرة على امتداد الحدود عادت الملائكة الى التحليق في حياتي مجددا مزيلة باجنحتها الرقيقة اثار الثيران الوحشية التي لعبت معها طويلا خلال الاعوام 1979-
1982 . هنا كانت لغة الشعر عندي صوتا مكتوما،  على النقيض من الايقاع العالي في اللغة السائدة، لغة هي احتفالات تغطية الآلام بالشعارات او اليافطات السود، لافرق، لغة من فروسية بائدة وجعجعة امجاد، لغة بايقاعاتها المنتظمة في الصدر والعجز تصبح كالشظايا التي كانت تأتي مطرا ثقيلا يجعل المدى امامي وحلا رصاصيا دونما حد !
الافتراق كان دائما اقسر الطرق الى التهميش،  ومن هنا وعيت "هامشي" الذي كنته وحرصت على اعتباره "متن" وجود يكتمل. الاغنيات منحت " الهامشي" فيّ عناصر حيويته وادامت بعضا من رومانسية كنت احتاجها، فالوقت يتسع للحب ولنشيده المجروح،  وهكذا مضيت مع امرأتي التي انهكها الانتظار وتوتر الوعود مع توترات النار الى بيت صادف ان يكون محطة زواجنا الاولى ..هناك ظللتنا انغام اغنية رقيقة لجورج مايكل Careless Whisper بشجنها الجميل،  وهكذا ارتشفنا عسل محبة صافيا من لحنين للمغني ستنغ قبل ان يغادر فريقه "بوليس" وهما King Of Pain  واغنية Every Breath You Take  دون ان انسى حفاوتها الشخصية بلحن ما انفك الى اليوم يلمع بسحر جمال خاص وهو لحن اغنية Home By The Sea للفريق الغنائي Genesis،  وجاءت حفاوتها على الارجح بما قصده عنوان الاغنية ولحنها ايضا: اي ان يكون لها " بيت على البحر"،  وهي كانت امنية تشبهنا حينذاك ، تشبه تطلعاتنا نحو بيت، ونحو هدوء وعزلة، تطلعات صارت بحسب ايقاعات المعارك الصاخبة بمثابة الحلم الذي ينسف ويتهدم شيئا فشيئا.
الصمت الذي كان يأخذني الى "بحاره" البعيدة كلما ودعت امرأتي ذاهبا الى الحرب في غياب لا يعرف مداه،  والغياب الذي كان يعني جثث الاصدقاء والاقارب صار يتحول مساحات تتسع للحكي والاستطراد والسرد وهو ما وجد نظيره في الاغنيات، حيث بدأت الرومانسية تتقشر لتكشف عن عواءات ونداءات مجروحة،  مثلما كانت حقائق تتكشف واخرى تتعدل واوهام تنقشع.
حول هذه الملامح من الرعب الشخصي تشكلت صحبة لي،  صحبة بدت خارج الايقاع التقليدي للهدم المنظم الذي كانت تعنيه الحرب، صحبة تجد صياغات روحية تشبهها: الحان من المغني ستنغ الذي كان يطيح بالصورة التقليدية لنجم البوب وليعطيها ملامح المثقف والمعرفي،  ولكم احببت اغنياته في اسطوانة Nothing Like The Sun ثم جاءني صاحب الانغام المجنونة في فرادتها وعمقها، المغني والمؤلف الموسيقي بيتر غبريال ، فمن موسيقاه في فيلم Birdy  الى اغنياته في اسطوانته الرائعة  So .
واذا كنت اجتهدت كثيرا في ملاحقة جديد النغم عبر وسائل شخصية تماما ، فان ما كانت توفره ساعات البث في محطة "اذاعة بغداد أف أم" لاغنيات من نوع كان يجمع الحداثة والجودة في آن ، منحني فرصة جدية لمراقبة النتاج الموسيقي لاكثر من عقد ومنحتني ذخيرة لا تنتهي من المواد الموسيقية النابضة بكل ما هو ممتع وجميل . ولو استعدت هنا الطريقة التي كنت فيها احصل على تلك المواد لانكشفت حال من الشغف التي كنت اتعاطى بها مع ذلك النتاج الغنائي والموسيقي والذي اعانني فعليا على تجاوز مرحلة الموت الوحشي التي عشت تفاصيلها قذيفة قذيفة ، فقد كانت زوجتي تسجل لي (اثناء غيابي في الحرب)على اشرطة برامج وساعات غنائية كنت اثق بذائقة معديها ومقدميها ، والذين كان لي معهم نمط  فريد  من الصداقة القائمة على محبة النغم الرفيع ، فمن الفنان الصديق مقداد عبد الرضا الذي تولى ادارة الاذعة لفترة طويلة الى الجراح الاخصائي د.مهيمن نوري جميل والكابتن الطيار رعد دراز ومهندس الطيران صباح هاشم امين. انهم كانوا جزءا من مجموعة تنتظم في صنع بهجة كانت تنطلق في اثير بغداد وعدد من المدن العراقية .
كانت زوجتي تسجل لي من البرامج الاسبوعية التي يقدمها "مهيمن" وابرزها برنامج  كان يعرض بالمعلومة المبسطة والاشارات الذكية الاسطوانات الجديدة لاشهر الاسماء في عالم الاغنية الغربية في الثمانينيات وهو برنامج Spot Light On A Album ومن برامج "رعد" كانت تختار لي Night Flight الذي كان فضلا عن اختياراته الغنائية الموفقة يتمتع باخراج ذكي يحاكي مهنة مقدمه الطيار المدني وفي لحظات كانت تشكل له متعة خاصة وهي " الطيران الليلي" التي جاء عليها العنوان.
مع امتداد سنوات الحرب اصبحت الذائقة اكثر ميلا الى الموسيقى المجردة ، ولكن لابد من تعبيرات اخرى مغايرة غير التي حفظت ودرست واحببت، غير باخ، بيتهوفن،شوبان ،موتسارت وتشايكوفسكي ، غير هؤلاء، وهكذا وضعت يدي على New Age Music او "موسيقى العصر الحديث" التي لم تكن مجرد آلات موسيقية وصوتية ومؤثرات اليكترونية وحسب، بل تعبيرات معاصرة هي اشبه ب"نثر"الموسيقى ، فهي انغام مكتوبة على الاغلب خارج السلم الموسيقي ، ومثلما" قصيدة النثر" تحقق ايقاعاها خارج "الوزن"، هنا الموسيقى الجديدة تحقق " الهارموني" خارج السلم الموسيقي. في هذا النوع من الموسيقى شغلني المؤلف اليوناني الاصل فانجليس في غواية مطولة عبر اعماله ومنها China الذي جاء سياحة في الفكر الصيني وحضارة بلاد السور العظيم ، او العمل الـتاملي في الحياة وجانبها الآخر: الموت والذي تضمنته اسطوانته"احتفالات التراب" Soil Festivities ،كما أسرتني المؤلفة ديبورا هينسون كونان لتذهلني بعملها Night of The Rose، وجاءت "وردتها" ندية حقا في الليل ووحيدة، ثم وصلت الى المؤلف اليوناني الاصل ياني كريستوماليس او كما عرف على نطاق واسع Yanni باعماله التي نقلت الموسيقى من اجوائها النخبوية الى افاق الذائقة الشعبية،  ثم المؤلف للعديد من الموسيقى التصويرية للافلام الاميركية براد فيدل،  ومن واحدة من مقطوعاته اخترت المقدمة التي جاءت عليها الموسيقى التصويرية التي اخترتها لمسرحية المخرج الموهوب ناجي عبد الامير"الحريم" والتي عرضها في "منتدى المسرح" ببغداد في خريف العام 1993، وكانت المقطوعة المنفذة اعتمادا على ضربات متوترة ونشيج كمانات،  معادلا موسيقيا لمشهد الافتتاح في المسرحية : الممثل (خالد علي) يدخل مأزوما الى عالم من "حريم" مسكون بالخفايا والازمات. قبل تلك التجربة كنت عملت مع شاعرين ومسرحيين هما الصديقان عبد الخالق كيطان (اعداد مسرحي) وكاظم النصّار (اخراج) في اعداد الموسيقى التصويرية لمسرحية مأخوذة اصلا عن نص الالماني هاينريش بول وجاءت مسكونة باعباء ومخاوف وازمات انسان ما بعد الحرب ، وكنا جميعا ومثلنا البلاد خرجنا الى ازمات مابعد حرب الخليج الثانية 1991 ، وفي العرض الذي حمل لصانعيه عددا من ابرز جوائز مهرجان منتدى المسرح 1993 استخدمت مقطوعات تبدأ من Pink Floyd ولا تنتهي باللحن الاساسي لاوبرا "كارمينا بورانا".
*نشر النص في موقع كيكا العام 2007


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM