نقد أدبي  



في نصين مسرحيين: جواد الأسدي يكشف عراقاً راهناً ويمعن في نقد الضحية

تاريخ النشر       16/11/2009 06:00 AM


علي عبد الأمير*
مع ان نَصّيْ جواد الأسدي: "إنسوا هاملت" و "حصان الليلك" اللذين ضمهما كتاب واحد صدر قبل أشهر في بيروت عن "دار الفارابي"، يحتملان أكثر من مستوى للقراءة، فهما نصان قادران على أخذ موقع بارز في الأدب المسرحي، مثلما هما يشيران الى ظاهرة المخرج – الكاتب وما تعنيه الظاهرة بالنسبة للأسدي الذي لطالما "فتك" بالنصوص المسرحية وأحالها الى رؤية إخراجية ليست بالضرورة مأخوذة بفتنة النص ولغته ورؤاه، غير ان هذه القراءة ستذهب الى فحص مستوى آخر في النصين، مستوى تأويلي، ستبرره بالأسانيد المحتشدة في النصين.
انها قراءة "إنسوا هاملت" و "حصان الليلك" بوصفهما يقعان في سياق "نقد الضحية" وانطلاقاً من وقائع اللحظة العراقية! أنقول اذن انهما نصّان تضمنا الكثير من جمر القضية العراقية ويأسها وجراحها ودائماً عبر سياق لا يعرف القسر، وانما عبر اندماج كلي بين بواعث النص ومهمة الكاتب وبوصلة رؤاه، ونظرته الى مشهد يخصّه بقسوة، ويهزّه بعنف، ويتراءى له شجياً، خصباً، دموياً، ويبعث على اليأس أيضاً، انهما نصّان في نقد الضحية العراقية، نقد الموقف الإنساني في محور سكاني محدد وإزاء وقائع ما زالت تكرر نفسها: إفتتان الطغيان بقسوته، وإندراج الضحية في قبول مصيرها الدموي!؟
في "إنسوا هاملت" يُعلي جواد الأسدي نبرات احتجاجه، وأسئلته المريرة الموحشة عن بواعث الطغيان ومن ثم اظهاره ببراعة، الطبيعة التي تنتظم فيها القسوة حتى في ذهابها الى سرير النوم! دون أن ينسى تعنيف الضحية، بذهابها المريح والمتساهل الى الذبح! انه لا يستثني احداً في مشهد المأساة، فكما يوغل في فضح النسيج الدموي لكلوديوس: "الدانمارك صارت سجناً كبيراً يا هوراثيو! مغطساً عفناً، وإلا كيف ينصب كلوديوس الجاهل نفسه ملكاً علينا، ويستبيحنا؟ ثم يسخر من إرثنا، وموتانا، ليحوِّل البلاد الى مقبرة شاملة"، وتشتعل اللغة في مهمة تكثيف المشهد المأساوي الذي يعنيه الطغيان: "مقصلة نشطة، جاموس مجنح ينام علينا جميعاً، يطيح بنا فرداً فردا دون أن يكترث لأحد"، مثلما يؤكد ذلك، فإنه يعنِّف الضحية عبر إظهاره هاملت مستسلماً بقدرية مزرية لما يشير اليه الطغيان، فلا هو يُستثار لمقتل أبيه ملك الدانمارك وإغتصاب عمه كلوديوس أمه والسُلطة: "يذبحون أباه أمام عينيه بينما لا يتزحزح هو عن رصانته وحكمته! التأمل والتفلسف وإدارة الظهر للقاتل جريمة لا تغتفر"، وإذا كان هذا المُقتبس جزءاً مما تقوله اوفيليا فهي تزيد عليه "يا لخسارة الدانمارك كنت أميرها وريحانتها الآن صرت خروفها"!
جواد الأسدي يلعب على النص الأصلي لـ "هاملت" شكسبير، فيراه متطابقاً مع وقائع المشهد العراقي: الطغيان في أقصاه والضحية تذهب الى مشهد الذبح باستسلام! فهو ينزع عن هاملت أقنعة الشك والتساؤل والمراجعة والتردد ويفقده "شبح الأب" الذي كان يمده بقوة ما للفعل إزاء الغدر والطغيان، وليجعله هذه المرة تحت إختبار حقيقي: ما الذي انت فاعله إزاء قتلة واضحين وجرائم معلنة؟ والى أبعد من هذا السؤال – المحنة يأخذ الأسدي هاملت العراقي – إن صح الإفتراض – فيجعله أقرب الى "إنتظار هاديء" لقاتليه، في مشهد يظهره هادئاً وهو يستمع لحديث اثنين من الجنود الذي أرسلهم كلوديوس لقتله!: "اذا كانت هذه اللعبة تسلِّيكما يمكنكما ان تلعبوها"!!
وفي حين "لم تغرق الدانمارك بفساد ولم تطحن كما الآن" وان "البلاد لم تعد بلاداً، مقصلة أطاحت بالبعيد والقريب، العلماء وأهل الحكمة، النساء والرجال، والحياة تحولت الى بركة دم كبيرة" فإن المشهد االذي عناه الأسدي ليس بالصعب الوصول الى ملامحه، انه المشهد العراقي واستعارة جواد لحكاية هاملت، كانت استعارة ممكنة لجهة بث قراءة خاصة عن مشهد بلاده وهي تصبح تحت ثنائية مجنونة: الطغيان الذي حوّل البلاد الى بركة دم كبيرة، والضحية المستغرقة في قبول مصيرها بهدوء! حد انها لا تتعاطى مع قاتلها وحسب بل تكون مشدودة اليه أحياناً (كم من الحوادث ثبتتها وقائع المحنة العراقية من علامات اندماج بين مؤسسات الطغيان وبين ضحاياها)!: "كلوديوس/ إجثم على الدانمارك / إهجع على صدورنا / ستدور علينا، أليس كذلك / نحن مستعدون دائماً للإطاحة بنا".
غياب الفعل وإن كان احتجاجياً كما نوّه اليه الأسدي في أول نصه "إنسوا هاملت" ممثلاً في حكاية من رفض اعطاء الكأس المملوء بالسم الى سقراط، والذي سكب في جوفه سماً كان سيأتي على رمز أثينا "سكبت كل ما في الكأس بجوفي، فانتصرت، لقد متُّ، وكان ذلك الموت هو أجمل لحظة زهو في حياتي كلها"، مثل هذا الإحتجاج ظل غائباً عن هاملت: "يردّ على مقتل أبيه بـ "نكون أو لا نكون" كُنْ ولو لمرة واحدة يا جرذ".
هنا يقترب الأسدي مما بدا "محظوراً" في أي قراءة للراهن العراقي، أدبية أو فكرية أو سوسيولوجية، يقترب من "نقد الضحية"، فإذا كان واضحاً هذا المدى التام من الطغيان، وهذا الذي "سخر من إرثنا، وموتنا ليحول البلاد الى مقبرة شاملة" فهل يبدو صحيحاً طوفان الجزع والخيبة على المشهد العراقي "رائحة الموتى عطرة أكثر من رائحة الأحياء، لأن الأحياء أصلاً فقدوا عطرهم"؟
واذا كانت الوقائع العراقية أفرزت حلولاً أقل ما توصف به انها "سلبية" فان جواد يلاحق هذا المعنى عبر تسمية "الهروب حلاً" كالذي يقترحه هوراثيو على هاملت: "ألاحظت كم تبدو الشوارع فارغة، وموحلة، كأن الناس ابتلعوا أنفسهم وناموا؟ لن ترى سوى الجنود، انها بلاد الجنود، علينا أن نهرب".

غلاف مجلة "المسلة" وفيه ملف عن الاسدي

وفي حين تبدو الصدفة هي التي دفعت بنص "حصان الليلك" كي يجاور نص "إنسوا هاملت" في كتاب واحد، الا ان هذه القراءة على الرغم من "تعسف" ما قد واكبها، ترى ان دلالات النص تشير الى انهما شكّلا بُعداً دلالياً متجانساً، فاذا كان نص "إنسوا هاملت" يمعن في نقد الضحية لجهة إستسلامها امام سطوة القتلة والطغاة، فان النص "حصان الليلك" يتابع الفكرة من زاوية نظر اخرى، ليرى ان خيوطاً من الخيانة هي التي تنسج مع الإستسلام للطغيان، مشهداً جحيمياً لا علاقة للمعنى الإنساني فيه، حيث يصير كل شيء نهباً للضعف والجبن، وتحوّل الخيانة حتى الإحساس بالألم الى وسيلة اخرى لإغراق مشهد الحياة بالمزيد من اليأس: "عشرون سنة من الإحتقار المتبادل، تصوري، انه يبصق على وجودي، ويقتحمني وينتهكني ويجثم على نَومي، مع ذلك عليّ ان اتصرف كما لو كنت أحبه ومخلصاً له، ماذا أفعل، هذا هو قدري".
هذا ما يقوله السائس (خيون) واصفاً سيده المتعالي، الطاغي الذي كاد يقبض على الأنفاس والأرواح والأحلام، وهو ليبدو قريباً جداً من نتاج أخلاقي وتربوي لطالما انتظم فيه عراقيون، فهم يشعرون بطغيان حاكميهم، وسطوتهم التي حطت من وجودهم الإنساني إلا ان ذلك لا يمنع من الإنضواء في الموجات الجماعية تلبية لنداءات الحروب، وكأن في تلك الإستجابة خلاصاً من مصير أسود كان سينتظرهم فيما لو رفضوا القبول بمسيرات الموت "الوطنية": "ماذا أفعل هذا هو قدري"؟
 (خيون) السائس الذي كاد يفني عمره إخلاصاً، في تربية خيول سيده، وجد منفذين للخلاص المؤقت من إحساسه بالمهانة، الأول في وهم عشقه لدليلة المشغولة عنه بهيامها بالسيد الذي لم يكن يعبأ بها، والثاني في الحصان البهي القوي المندفع في سباقات الخيل كالريح: "الرمّاح"، انه رمحه ضد اكوام اليأس وجحافل السكون والظلمة، انه الإنقذاف الى فضاء خارج الإسطبل، خارج القمامة وخارج حياة أقذر من قبر.
هكذا صار "الرمّاح" معادلاً موضوعياً لحرية غير ممكنة، صار الحلم بالتخلص من كل قيد، ومن أجل هذا الحلم، كان (خيون) يعتاد مرور السنين، على أمل لحظة ينطلق فيها مثل حصانه الجامح مخلفاً نتانات أيامه، وعناءات كان الذل يكتبها وثائق سود.
ولأن القسوة والإضطهاد واحتقار البشر، تتعارض مع إمكان الوصول الى آفاق انسانية عادلة، لذا كانت كبوة "الرمّاح" في السباق كفيلة بوضع نهاية منسجمة مع مؤشرات حياة السائس، بل هي نهاية للرمّاح ولخيّون معاً، فها هو يستجيب، رغم ان الحصان كان آخر احلامه بالخلاص، لدعوة سيده بقتل الحصان الخاسر الجريح المُلقى في زاوية من الإسطبل:
"الأمير: لا نفع من إبقاء الرمّاح حياً
خيون: صمت
الأمير: خذ البندقية
خيون: نعم
الأمير: ضع الطلقات في البندقية
خيون: حاضر سيدي
يذهب خيون ويأخذ البندقية يضع الطلقات ... بصمت طويل وألم شديد، يطلق خيون الرصاص على الرمّاح، فيموت! ريح خفيفة تتصاعد، خيون يجلس على مقربة من الحصان كما لو كان حارس الموتى الأبدي"!!
وفي حين يبرع جواد الأسدي في رسم صورة "حارس الموت الأبدي" فإنه أقرب الى إحالتنا نحو مشهد يكون فيها الناس حراس موتى أبديين!!

 

بيوغرافيا: جواد الأسدي

• ولادة كربلاء، خريج أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد.
• حاصل على الدكتوراه من معهد الفيتز ببلغاريا.
• درس في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق.
• أخرج للمسرح الفلسطيني عدداً من المسرحيات بين 1980-1992.
• أخرج "العائلة توت" للهنغاري شتيفان اوركيني، حازت المسرحية على جائزتين ذهبيتين في مهرجان قرطاج بتونس سنة 1983 (المسرح الفلسطيني).
• أخرج مسرحية "خيوط من فضة" سنة 1985 فازت بالجائزة الكبرى مناصفة مع "صانع الأحلام" لريمون جبارة في مهرجان قرطاج الدولي بتونس (المسرح الفلسطيني).
• أخرج "ثورة الزنج" لمعين بسيسو (المسرح الفلسطيني).
• أخرج مسرحية "الحفارة" للكاتب الروسي أربوزوف بدمشق (المسرح العمالي) سنة 1979.
• أخرج "ماريا بنيدا" لغارسيا لوركا (المسرح العمالي) 1985.
• أخرج "ليالي الحصاد" لمحمود دياب (المسرح القومي) 1989.
• أخرج مسرحية "مقهى أبو حمده" مسرح الشارقة 1987 فازت بجائزتين ذهبيتين.
• أخرج مسرحية "الإغتصاب" (المسرح الفلسطيني) 1992 فازت بجائزة ذهبية في مهرجان القاهرة التجريبي.
• أخرج مسرحية "تقاسيم على العنبر" (المعهد العالي للفنون المسرحية بسورية) فازت بجائزة الإخراج بمهرجان القاهرة التجريبي الدولي سنة 1993.
• أخرج "المملوك جابر" (المعهد العالي للفنون المسرحية – 1984) مهرجان دمشق المسرحي.
• أخرج "رأس المملوك جابر" – مسرح لاكاسولا الإسباني سنة 1994.
• أخرج "الخادمتان" لجان جينيه – مسرح بيروت 1994.
• أخرج مسرحية "الخادمتان" لجان جينيه – مسرح الهناجر بالقاهرة 1995.
• أخرج مسرحية "إنسوا هاملت" – مسرح الهناجر بالقاهرة 1996.
• أخرج مسرحية "المصطبة" – مسرح بيروت 1998.
• أخرج مسرحية "مندلي" – المجمع الثقافي – 1997.

له عدة إصدارات
• المسرح والفلسطيني الذي فينا – دار الأهالي، دمشق.
• تقاسيم على العنبر – منشورات المجتمع الثقافي – أبو ظبي.
• مرايا مريم – دار ميريم – بيروت.

*نشرت في ملف خاص احتفاء بالاسدي ضمن مجلة "المسلة"- تشرين الاول 2001



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM