علي عبد الأمير بيروت: آب 1982 هنا محمود درويش الشاعر الفرد المنسي تقريبا، الإنسان الوحيد في شقة من الطابق الثامن لعمارة تعلو كنتوء بسيط تواجهه الطائرات المغيرة على بيروت؟ كيف يصبح هذا المصير حكاية بالغة العمق عن واحدة من المنعطفات الخطيرة التي مرت بها حياة الشاعر – قضيته في آن؟ في الحصار الاسرائيلي لبيروت، يعبر محمود درويش من الشخصي إلى الآخر، يعبر من محنته في عدم القدرة على المسير ولو لمتر واحد داخل شقته كي يصل المطبخ لإعداد فنجان قهوة يعلن من خلاله وجوده حيا لصباح آخر "النوافذ مشرعة ازاء الفضاء الذي غمرته الشظايا ". يعبر من هذه الزوايا الضيقة إلى "لحظة يتوقف فيها كل شيء عن الكلام، لحظة تصوغ فيها الملحمة الشعبية تاريخها وابداعها الجماعي. بيروت هي الكتابة الإبداعية المثيرة، شعراؤها الحقيقيون ومنشدوها هم مقاتلوها وناسها الذين لا يحتاجون إلى ترفيه وتشجيع على عود مقطوع الأوتار، هم التأسيس الحقيقي لكتابة ستبحث طويلا عن المعادل اللغوي لبطولتهم وحياتهم المدهشة"*. سيطوف بنا محمود درويش في مشهد بيروت وهي تختزن جذوة البقاء، مقاتلون وإلى جانبهم بداهة السؤال : أن يعيشوا بلادهم وأن لا يفتتحوا الصباحات بمزيد من نسائم البارود، وهكذا كان له وبلغة أصبحت من درويش المميزة اشتقاقا وتركيبا، وكانت هذه الكتابة أكثر رحابة في لم الشتات الممزق "للكائن" في الشاعر، فالقصيدة عنده توقفت، و الدمار الذي حل ببيروت جعل البعض يواجه درويش وشعراء آخرين: أين القصيدة؟ 
أعجبني ان أموت في الأربعين، لا قبل ولا بعد؟ وهذا السؤال "استجابة للراسب الثقافي فينا" الذي يربط صيحة الحرب بحماسة الشعر، باعتبار الشاعر معلقا على الأحداث، حاضّا على الجهاد أو مراسلا حربيا. الشاعر يخرج من غصة عميقة، لا قهوة لهذا الصباح، لا قطرات ماء (يورد درويش لائحة طويلة بأسماء الماء في العربية ويؤكد بأنه له طعم ورائحة)،لا همسات حب. الشاعر يخرج من خوفه المعلق ما بين الأرض والسماء إلى الشارع، بعد ان أقام موازنة وجد فيها ان الموت على الملأ أفضل من هرس اللحم بين أنقاض الكونكريت: "أسير وسط الشارع تماما ولا يهمني أن أعرف إلى أين سائر وكأنني في سرنمة، لا أخرج من شيء ولا أدخل في شيء، ولكن هدير هواجسي المتلاطمة يعلو على هدير طائرات لا أكترث بها".
هاوية لا قاع لها نحن في مشهد بيروت الذي يتيح لنا ان نرسم عناصره الفاعلة على مهل: مدينة تتحول إلى مفهوم، ومعنى، ومصطلح ودلالة ومحمود درويش حين يتساءل عن سر بقائه هنا عشر سنوات، نفهم حزنه ووعيه الذي يعينه على لمّ ما تمزق منه فهو الذي ارتكب الحرية هنا في مدينة بدت كأنها "ورشة حرية"، مدينة الثنائيات العجيبة: الحرية- السلطة، الغربة-الأمان، الطمأنينة-الموت المجاني، الفكر العميق-الملصقات، المحلية- تقليد الآخر، ومن الممكن ان تنسج على هذا المنوال ما شاء لك من ثنائيات قد لا تنتهي بـ "عري فاضح- حجاب". وفي أرجاء هذا المشهد نتعرف مع الشاعر على الأصدقاء الشعراء، وبعض القادة ونتوقف عميقا عند انتحار الشاعر خليل حاوي الذي حمل بندقيته واطلق رصاصة نحو رأسه بعد دخول القوات الاسرائيلية الى بيروت، وعن هذه اللحظة يقول درويش : إصطاد نفسه، لا ليشهد على شيء، بل لكي لا يشهد شيئا ولا يشهد على شيء، لقد سئم هذا الحضيض، سئم الإطلال على هاوية لا قاع لها، وما الشعر؟ الشعر ان يكتب هذا الصمت الكوني، النهائي، الكلي، كان وحيدا، بلا فكرة، ولا امرأة، ولا قصيدة، ولا وعد". ما الذي حال دون انتحاره؟ لكن الحصار مستمر، وهناك جديد في وسائل الموت: القنبلة الفراغية التي بإمكانها ان تجعل عمارة تختفي فجأة من على سطح الأرض لتُنزلها عميقا في التراب: سطح العمارة يتساوى مع سطح الأرض !!! ومن كان على سطح العمارة بإمكانه السير مباشرة على الطريق، في مشهد يبدو " ضحك كالبُكا": رماد من بخار، وبخار من رماد، المعدن سيد الوقت، القصف يطاول كل شيء، ولا يبدو إن لهذا اليوم نهاية، آب اقسى الشهور وهذا اليوم أقسى الشهور وهذا اليوم أقسى أيام آب وأطولها، أما لهذا اليوم نهاية؟ لا يبتعد محمود درويش في كتابه النثري "ذاكرة للنسيان" عن روح الشعر، روحا ونظما، فكان يبث بأبيات شعره هنا وهناك في مهمة الربط بين مفاصل البناء السردي لكتابه، ومن خلاله نصل إلى ما آلت إليه الأحداث: الرحيل فهو يقول: "حاصر، حصارك بالجنون وبالجنون و بالجنون، ذهب الذين تحبهم ذهبوا، فأما ان تكون او لا تكون". قصف "يقصف" كل شيء ويجعل الذاكرة حقا تبدو كتركيب هلامي: "لا تتذكر بل تستقبل ما ينهال عليها من تاريخ، أهكذا يصير الجمال السابق، الجمال المستعاد في غناء لا يناسب مقام الساعة – جمالا مأساويا"؟ ونتطلع في ملامح العبث الحياتي والشتات الذي آل اليه الجسد، والنثار الذي آلت اليه الروح: "وفي ساعات العصر هذه، يعجز البدن عن حمل أعضائه"، "هرب الكلام الى البعيــد، أخذ الكلام كلماته وطار". وتظل السماء تأتي بمتواليات الموت، وهناك في الأرجاء القريبة من يرى في الضحية، السبب لكل هذا الضجيج :"ارحلوا كي نرى السماء صافية"، جارة الشاعر تصرخ هكذا بوجهه! لكن إن أزفت ساعة الرحيل ما الذي على الراحلين ان يُبقوا وأن يحزموا من حقائب؟ "سنأخذ خبز الكلام سنأخذ معنا دخان القلوب المحترقة وهي ترد: لا أقصد أن أجرحكم وسنأخذ معنا الصمت الذي يسبق غايات القصائد، سنأخذ آثار المطر المتجعد على خطى حاولت أن تسمي الوقت، سنأخذ رائحة القهوة، وغبار الحبق المفروك وهاجس الحبر، سنأخذ معنا ظلال الطائرات وصوت المدافع في أكياس مثقوبة، سنأخذ معنا ما خف حمله من الذكريات وعناوين اسطورة ومطالع الصلاة". لم أجد ما أوصي به أخذوا كل هذا وأبقوا الغياب، وللذي راهن على رحيل الموتى – وتنظيف دم الشهداء ان ينعم بسماء صافية، وأن يستقبل من يدخل ظافرا للمكان، المكان الذي حوّله الغياب إلى موعد جاهز لكرنفال قتل همجي سيطال من ظل يأمل بمتر مفتوح للريح والنشيد. والحياة قرب الموت تبدو أشبه بكتابة وصية طويلة، وهي ما يوردها درويش بعد ان وجد نفسه جالسا على مقعد جلدي مريح وهو يستمع إلى ثلاثي القتل المتناغم: الطيران، البحرية، المدفعية: "الساعة العاشرة مساء، حملت قنديل الغاز ذا الشخير الأليف ومشيت الى غرفة المكتب لأكتب وصيتي، لم أجد ما أوصي به، لا سر في حياتي، لا مخطوطة سرية، ولا رسائل خاصة احتفظ بها، وناشري معروف، وحياتي فضيحة شعري، وشعري فضيحة حياتي، رف على بالي مطلع قادم من سطوح بيوت الجيران: يطير الحمام، يحط الحمام، أعجبني ان أموت في الأربعين، لا قبل ولا بعد". ولكنه لم يمت وخرج الى الشرفة، الى البحر "والبحر طلقته الأخيرة"، وإليه مضى في سفن نوح حديثة، في أزرق يسفر عن أبيض لا نهائي ولا يسفر عن ساحل". نص درويش هذا " ذاكرة للنسيان "حفر في المعيوش، وسرد في الحزن والحب والغضب، نص لم يكتب بغاية "أدبية" صرف، بل هو ايضا يقع تحت تأثير الواقع ولكنه يحاول الانزياح عنه دائما، ليبقي للكتابة فسحتها الخلاقة، قدرتها على إعلاء شأن الحدث من سجلات الإرشيف إلى مستوى التحفيز والإطلالة الدائمة على الحياة. محمود درويش قرأناه في "ذاكرة للنسيان" بما يغمرنا باليقين اليقين، وبما يعزز ذلك اللهب المقدس في النفوس: صدق الكلام. ولاية تكساس الأميركية**: آب 2008 أعجبني أن أموت ......... أن أموت ..............أموت ..................... لكن ليس في المنفى وبقلب أعيته الأشواق *كل ما هو بين قوسين صغيرين مقتبس من كتاب محمود درويش "ذاكرة للنسيان.. دار توبقال – المغرب-الطبعة الاولى 1987 ". **مات صاحب قصيدة "أحن إلى خبز أمي" في مستشفى لأمراض القلب بولاية تكساس الأميركية. *** جزء من المقالة نشر في مجلة اليوم السابع الباريسية 1989 ونشرت كاملة في "الغد" الأردنية بعد أيام على وفاة الشاعر. |