نقد أدبي  



البيّاتي: يوقع كتاب (المراثي) ويعشق في " خمسون قصيدة حب"

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       01/12/2009 06:00 AM


الشاعر عبد الوهاب البياتي, موزع ما بين منفاه الحالي (موقعه الاتصالي في عمّان) وانهماكاته في متابعة تطورات الشأن العراقي, وحفاوته التي تأخذ من غاليري الفينيق للثقافة والفنون مشهدها المكاني, حيث يستقبل الاصدقاء العرب والعراقيين من الشعراء والكتّاب والفنانين, فشهد المكان حفل توقيع لديوان البياتي الجديد " كتاب المراثي " الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر, وهو يضم 55 قصيدة جديدة, نشطت في توجيه القاريء الى المواقع الاثيرة عند البياتي, فهو لم يزل يُعلي فكرة الاقتراب من الموضوعات الارضية لا بل اليومية دون الانهماك في تفصيلاتها اللاشعرية, يأخذ منها تقاطعات المصائر وعراك النفوس ويذهب الى النقطة المركزية لهذه التقاطعات, هو { كتاب المراثي } بحق حيث الرحيل الابدي لاصدقاء :
 ( غائب طعمة فرمان ), ( لويس عوض ), ( ناجي العلي ) ولافراد من العائلة , كما في قصيدته المؤثرة "مراثي نادية البياتي " التي تحيلنا الى رثائه القديم لولده علي, ولتأتينا الابيات هذه المرة منتقلة من ربط الموت الشخصي بمعطيات اكثر شمولا الى توصيف لقداس جنائزي شخصي :
 قبرك ... في المنفى
وفي الوطن
قبرك ... في كل مكان
شع فيه الضوء و الكفن ......
كذلك رثائيات غدت اقل ( مباشرة ) حين اكمل الشاعر كتابتها في قصيدة ( حرس المقبرة ) بعد مرور عام على وفاة ابنته نادية :                                                  
تحديات حصار المدن المستلبة ...
والحدود المغلقة
وقف الشعر ببابي
حارسا يدفع عني القتلة
فلماذا اخطأ الموت
وأودى بك
يا نجمة صبح الغابة المحترقة ......
 

علي عبد الأمير وعلي السوداني في "ركن البياتي" بغاليري الفينيق بعمان بعد ايام على رحيل البياتي في دمشق 2 آب 1999
 
الشاعر يرثي ظواهر وعلامات ومراحل كانت لفترة حاضرة وفاعلة في حياتنا, ( لم يره أحد, لكني كنت أراه, يخفي تحت عباءته : مدنا, كتبا, اوراقا, نجما احر – ديكا, قيثارا, يبكي حين تهب رياح القطب وحين تنام الغابات ), هذا الشاعر المأخوذ بقباب النور يعاوده الحنين الى الامكنة – الدلالات, فثمة الكوفة, مدائن صالح, حمرين, الشرقاط, قرطبة, باب الشيخ, عمان, بخارى, تبريز, سمرقند وغيرها فينقب في هذه الامكنة ليدخلها في القصائد بما يجده فيها من تطابق مع رؤيا شخصية ترى الراهن والتاريخ محكوما الى الابد, فكرة الفناء الذي يتعرض له المعنى الانساني العميق فيما ينجو الطغاة والقتلة ! الشاعر في اجرائية خاصة به, يعيد رواية الحكاية لنجد في المراجعة, انه يمجد المبدعين / القتلى والضحايا, انه في رؤياه يقف مجددا عند أسماء : المتنبي, جلال الدين الرومي, الحلاج, عزيز السيد جاسم و أسد الله غالب, فيعيد حسب الاستخدام ( القناعي ), استلام فكرة النور وإكبار فكرة التضحية وإعلاء شأن الاخلاص والايمان العميق بالفكرة : " أشعل سيف الدولة آخر قنديل في الدار / هزمت كل منارات الابداع نضبت ساعة رمل الاقدار / صمت القيثار / لكن المتنبي نجل السقّاء الكوفي حفيد امام الفقراء ظل يواصل اشعال النار في جثث الموتى وقبور الاحياء ".
البياتي يعيد تشكيل اسطورته الشخصية, حين يقارب عشتار, الاسطورة البابلية, كلكامش او دلمون, يصل حدود أور السومرية ويهدأ قليلا عند ( صاحبة الحانة ) ليجدها وقد اصبحت معاصرتنا, فيحاصرها الجنرال ويأخذها محضية له فيما هو منشغل تماما في تهيئة الازرار التي يطلق منها الاسلحة الكفيلة بتدمير معالم الخلق الانساني !! ومثلما فعل في الامكنة ودلالاتها والاسماء – الاقنعة فعل في الرموز الاسطورية حين جعل الفعل الانساني كمحور للحكايات والازمنة, وعبر ازمنة الضيق والضنك التي يعيشها ذلك الفعل الانساني كانت تتصاعد حكايات محايثة للاصل لم تنفك تعلن انحيازها لـ : الشعلة, الكتابة, العشق, الارض, الحلم, التحريض, الوطن, الشمس, المرأة, البشر الفانين, الرحيل, الموسيقى, التعب, الروح, الشعر, الحرية والميلاد.                        
عبد الوهاب البياتي, كأنه في ( كتاب المراثي ) يلخص ( فكره ) الشعري, ويؤكد على فكرة الشاعر بكونه رائيا, يدقق في الوقائع وعينه ترى المستقبل, يستخلص الاثر من الماضي بما يحمي الانسان من انفصاله الوحشي عن الحقائق : "أمضيت حياتي مأخوذا اتسكع تحت قباب النور أحصي اوراق الاشجار, ورايات غزاة الداخل والخارج في سوق الورّاقين وصليبي في عنقي كم كان إلهي هذا الليل طويل كم لصا أغمد في صدري سكينا كم حبا مات بهذا النفق المسدود, لكني حياتي كانت تمضي كالنهر المتسكع تحت قباب النور".
 
و...."خمسون قصيدة حب" للبياتي:
بحث دائب لتحويل الخلاص الفردي الى أنموذج جماعي ......
عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر", صدر مؤخرا كتاب "خمسون قصيدة حب" للشاعر عبد الوهاب البياتي, قام بأختيارها والتقديم لها على انفراد, الشعراء : محمد تركي النصّار, عدنان الصائغ, نصيف الناصري والناقد عوّاد علي والذين وفرت لهم فرصة الاقامة في عمّان اقترابا من الشاعر البياتي, الى حد الاشتراك معا في تحرير الكتاب, وهم كادوا يشتركون في فكرة واحدة مؤداها ان الحب عند البياتي لم يكن مجرد عاطفة متبادلة بين رجل وامرأة ونفوذ تصويري الى يوميات تلك العاطفة وملامحها, بل هو يتحول الى آفاق اكثر اتساعا حين يصبح دافعا اساسيا
للبحث عن خلاص يرتبط فيه الفردي بالجماعي, بل هو المعادل الموضوعي لمواجهة القبح والقسوة والتعسف والظلم, فالشاعر محمد تركي النصّار يقول : ان " اهم ما يميز تجربة الحب  لدى البياتي, اتسامها بالبحث الدائب لتحويل الخلاص الفردي الى رمز شامل وانموذج عام, إذ يذوب الهم الفردي بالجماعي من خلال قوة المواجهة, ضد اشكال الاستلاب والاذلال الكوني, وتأكيدها في البحث عن الحب الاعظم الذي كلفه حياته كلها وجعله اشلاء ممزقة, وها هو اليوم يحاول ان يجمع هذه الاشلاء لكي يعود للإنصهار والذوبان في روح العالم الكلية"، بينما يرى الناقد عوّاد علي ان الشاعر البياتي من اكثر الشعراء العرب المعاصرين تركيزا على موضوعة الحب مستندا الى رؤية ديناميكية / جدلية ذات تحول واضح وتطور عميق من الرومانتيكية وقد تمثلت في ديوانه " أباريق  مهشمة " ثم إقصاؤه للرومانتيكية ابتداء من "المجد للأطفال والزيتون" حتى "النار والكلمات"، لتتطور رؤية الحب عنده مع تطور وعيه السياسي والاجتماعي وتنّقله من منفى الى منفى وليتسع مفهوم الحب ليشمل مفهوم الثورة، ثم يتطور مفهوم الحب في دواوين البياتي اللاحقة من "سفر الفقر والثورة" حتى "كتاب المراثي" ديوانه الاخير، الى طقس انساني غير خاضع للتحديد والوصف, فالحس الوجودي مغلف بغلالة وجدانية والوجد الصوفي يغمره طوفان اسطوري والنزعة الثورية يحكمها افق كوني شيب ببياض بيورتياني, وهو بذلك يقدم جوابه الشعري لمشكلة الحياة والموت.            
 هذه المقدمات الشخصية, حين تتوصل الى ( رؤيتها ) المعلنة لفكرة الحب عند البياتي وحسب ما ذهبت اليه, فهي توصف بذلك كامل المحمولات النصية لتجربة الشاعر, بل هي بمفهوماتها "النقدية" سمت جوهر تجربته وبؤرتها الفاعلة وبالتالي فأنها لن تستطيع – اعتمادا على ذلك – ان تحدد ما هي قصيدة الحب عن غيرها من خلال دواوين الشاعر, فقصيدة مثل "سيرة ذاتية لسارق النار" اختيرت هنا كقصيدة حب, اعتمادا على استنتاج توصل اليه الأربعة :
الحب عند البياتي, هو بحث دائب لتحويل الخلاص الفردي الى جماعي من خلال مواجهة قوى الاستلاب.
عموما أضاءت القراءات والاختيارات جانبا مهما من تجربة الشاعر البياتي التي تظل قابلة لكثير من المحاور القرائية لما فيها من غنى وعمق أصيلين. 
 
*مقالتي عن "كتاب المراثي" نشرت في صحيفة "الاتحاد" الاماراتية 4 شباط 1996
* اما متابعتي الصحفية لكتاب "خمسون قصيدة حب للبياتي" فقد نشرت في صحيفة " بغداد" 15 آذار 1996.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM