علي عبد الأمير ليس بالجديد، صدور رواية لشاعر، فلطالما وقعت بين ايدينا روايات تحمل توقيعات شعراء عرفناهم بسيرة كتابية متقدمة في حقل الشعر، وها هو الشاعر غسان زقطان ينظم الى هذا الشكل من التعبير الفني في الكتابة: الرواية. انه يذهب عبر روايته وفصولها الى عوالم الوعي الاولى، عوالم الكشوفات الاولى، الحسية والذهنية ... عوالم اقرب الى الفطرة في تشكلها مع المشهد ولكنها التي تنتظم في روحية صاحبها، لتكون ابكر من ذخيرة اليوميات، ثمة متن حكائي بسيط، استطاع من خلاله غسان ان يبني عمله، هناك امرأة لم يقصد الكشف عنها، شكلا عاريا وملامح صادمة لذهنية الطفل، مجرد صدفة قادته الى لقاء كهذا، لقاء عبر نافذة مع ملامح صادمة لهدوء الطفولة اليومية وتلقائيتها " جئنا، نتفرج عليك وانت نائمة".
من خلال هذه البؤرة، نتعرف على عوالم قرية صغيرة، حكايات الناس بها، رواحهم ومجيئهم، مصائرهم المبددة في العيش اليومي ونثار الحرب الفلسطينية الاولى - هنا تمكن غسان ان يرسم بايحاء وابتعاد عن القسرية والمباشرة، صوغ الحكاية التي توحي بثقل وكرب تلك الايام.
وكانت تقنية كتابية ناجحة، تلك التي لجأ اليها في وضع عنوانات الحكايات الجانبية والتي ترسم المشهد كله، مشهد الحياة في الرواية، كعنوانات لفصول الرواية التي كانت تذهب بعيدا عن محور الحكاية ومكانها ( المرأة الشابة في بيتها مع زوجها الرجل الكبير في السن )، ولكنها ما تلبث ان تجد ( لغويا ) نقطة عودتها الى محور الحدث.
الشاعر غسان زقطان في "وصف الماضي": رواية ام نص مفتوح؟
اللغة ابتعدت عن السرد البطيء والامعان في شرح التفاصيل الصغيرة، بل تحولت عبر قدرة التكثيف – هي لغة شاعر اصلا – الى دلالات متكاملة، غير ان هذا لا يمنع عنها لغة الاستعراض الشعري الذي وقعت فيه لغة الرواية، خذ مثلا : ( تحايا ويد مجاورة بخمسة اصابع طيبة تحط على ركبتك فتصدق الكلام الذي في الهواء، طيور ترسلها للآخرين حمام وبلابل وصقور ودوريات )، أو:(كان الفراغ يتزايد وكان ميتا). غير ان هذا الاجتزاء القسري مني، لا يعني عدم انسجام هذه المقاطع وغيرها الكثير في السياق الكامل للكتابة، فهي إذ ترد في السياق، نجدها تتمتع بنقاط ادهاش تصوري وايقاعي في الكلام : ( ثم دفعت صدرها المكشوف وكان النهر مكشوفا ) او في قوله : ( لم تسمعي ولم تجب ولم اعد السؤال ) ... وعلى الرغم من بُنية التكرار في الكتابة بصيغة الماضي، وافعاله، والتي بدت احيانا ثقيلة على حركة الحدث أو وصفه في فصول الرواية، غير انها بدت طبيعية ومنسجمة في السياق، وبدت التسمية "وصف الماضي"، مخرجا طبيعيا من مأزق هذه البُنية التكرارية التي قد تميل عن دلالاتها المقصودة في عملية تنفيذ مرتبكة، تولد الملل.
الرواية كتسمية وكجنس ادبي، بدت اكبر من جسد النص. النص الذي اغتنى بطريقة تصوير، تجنح الى البوح، عناصر من اليوميات وطريقة تسجيلها والذي ابعد تلك ( الوثائقية ) عن الرواية، هو اعتماد فكرة الغياب في فصولها، غياب ابطال الحكايات جسديا وحضورهم كأحداث تتوالد وتتلاقى او تتقاطع احيانا. وهنا يمكن الاشارة الى فصل ( حكاية العراقي )، ( النصراني )، كدلالة على نجاح ممتاز في تنفيذ فكرة الغياب وتحويلها الى حكايات تنبض بالحياة وتدفق عوالمها، حكايات تنتمي للانسان وعوالمه الخفية والمعلنة. غسان زقطان اكثر ميلا الى تسمية عمله، بالنص المفتوح، فيما يبدو ان الناشر الروائي إلياس فركوح ( الكتاب صادر عن دار أزمنة، 1995 ) قد اقنعه بوضع تسمية "رواية" على الغلاف. عموما انه نص مفتوح حقا، نص شعري في عمقه الدلالي، له علاقة بعالم البوح، الجوانيات المنسية لابطال هامشيين، ولحكايات تبدو في نضارة لا تنتهي، حكايات ترى بعين طفل، وهذه اقرب الى النوايا الشعرية منها الى الروائية التي تميل الى الكشف والعلانية في التصوير السردي وايجاد اكثر من متن حكائي لتنفيذ كل ذلك. " وصف الماضي"، عمل جديد من غسان زقطان، صاحب التجليات الشعرية المميزة في "بطولة الاشياء"، انه عمل يمكن وصفه بأنه : (اخف) من رواية و (ابهج) من يوميات ... وهو نص يُبطل نظرية التخصص الكتابي الضيق، والإبقاء على النشاط في حقل كتابي محدد وجنس ادبي دون غيره. فهو يتمكن من توصيف حالته ( الابداعية ) مبتعدا عن توصيف ( جنسه ) الادبي ... ويترك تلك المهمة للمتلقي باعتباره هو الذي يعيد تشكيل النص ويساهم في كتابته ضمنيا.
* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة " الدستور" الاردنية 31 /3/1995
|