نقد أدبي  



وارد بدر السالم : اصبروا ....... انه حزن الجنوبيات

تاريخ النشر       27/12/2009 06:00 AM


قصة الحرب من خلال " اصابع الصفصاف"*
وارد بدر السالم : اصبروا ....... انه حزن الجنوبيات

بغداد- علي عبد الأمير
 
جيل الحرب القصصي .. لم يتذرع بوعي الواقعة عن بعد، او التريث ريثما تهدأ الحالة الصاخبة لتسجيلها بترو، هو منها، من عمق تفاصيلها، بل هو ذهب الى ابعد من ذلك، إذ  كانت اغلب أسماء ذلك الجيل في تشكيلات عسكرية تؤدي واجبها القتالي بأبسط التعابير، انهم جنود اولا، ومن ثم برعوا ككتاب مهرة، اغنتهم الحياة وشظفها بقوة التجربة.
ترى هل توفر الجانب الثاني كي تكون الكتابة "كتابة" حقا؟ هذا شأن شخصي من خلاله نتفحص "المبدع" من"العادي"، والكتابة ابعد من ممارسة في اللغة ودرس فيها أوتسجيل للانفعالات، هي رؤيا اولا واخيرا، وازاء حدث ساخن وصعب كالحرب، لا تفريط بحرفيات الكتابة في ذات الوقت لا تفريط بالرؤيا، وهذا شأن درج عليه كتّاب "جيل الحرب القصصي" واسمائه وفيرة تبدأ من وارد بدر السالم، محمد مزيد، جمال حسين، محمد حياوي، ثامر معيوف، فيصل عبد الحسن وقد تطول القائمة .
 وثمة كتابة عن الظاهرة سجلها الناقد العراقي  د . محسن الموسوي في كتابه الموسوم "المرئي والمتخيل...دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد "1987 ،توفر فرصة اكبر للاطلاع عن كثب على السجال الكبير الذي تثيره "قصة الحرب" وعلى النقاش الدائب هنا: ثمة مسابقات للقصص يتم اختيار افضلها ضمن كتاب دوري.
ونحن هنا سنعرض لعمل يتوفر على فرصة جيدة لطرح اشكالية قصة الحرب بكل جوانبها، فالمجموعة الثانية للقاص وارد بدر السالم والتي حملت عنوان"اصابع الصفصاف"صدرت قريبا وقوبلت بحفاوة وحققت صدى طيبا، وكاتبها هو ابن الجنوب الملتصق بعنفوان تفاصيله الحياتية، يرسم لنا وبذاكرة نشطة توهج المكان، عناية بالجزئيات صعودا نحو الحدث.
لقد توفر الكاتب على لغة مرنة لا يستهلكها اللهاث في الاستطراد، تظل راغبة للاحتفاظ بنفس شعري (يذكرنا باسماء ابدعت في هذا الاتجاه منها القاص والروائي السوري حيدر حيدر)، وصدق في التصوير لا يستهلك الكتابة فيمضي نحو الواقعية الفجة، بل يأخذ من "الواقعة" قوتها التسجيلية ليُشيع في جو القصة شظاياها، وقعها في النفوس.
ابطال وارد بدر السالم رجال بلا تدخلات مباشرة في إعلاء شأن هم غير جديرين به، نعم هم  مأزمون، عاشقون، يعاينون في الحرب فرحهم الضائع قدر ما ينكأهم جرح الحرب في اجازاتهم الطبيعية المهيئة اصلا لممارسة الاسترخاء وراحة البال !! والقاص توفر على قدرة جيدة في ادارة الحوار الذي ظل يحمل فكرة ووعيا شيء ولكنه من عنديات ابطاله وزخم تجربتهم ،فهذا الجندي يمضي في اجازته لممارسة تطلعه اليومي نحو تفاصيل الحياة اليومية : "سأعود الى الفراغ ... انا مُجاز الى الفراغ" او تعليق أب لشهيد ظلت عائلته تتلقّى الرسائل من حبيبته ! وتشكل تلك الرسائل عامل تجديد لحزن الأم، فيقول عن حزن الأم : اصبروا فهذا حزن الجنوبيات....
وهنا القاص يحيلنا ثانية للمكان، ومن ثم للطقوس فـ"حزن الجنوبيات" لاذع وقاس وموحش، ذلك الاحساس العالي بالمكان تجده بتهويماته ايضا عند القاص حتى في تقاريره الحربية التي يرسلها من القاطع الجنوبي، فهناك قصص حب متألقة، انكسارات انسان رقيق، وتقاريره الصحفية عن المعارك ليست أرشفة تقليدية وفيها كان يضيف من تقنية القاص شيئا ويأخذ منها اكبر من فكرة لإبداع قصة، وهنا اتذكر تلك الغمامة الموجعة من الالم الذي خيمت عليه طيلة ايام معارك شرقي البصرة في شباط – آذار 1987، فمدينته "عروسة الجنوب" ظلت تحتفظ بقوتها على التوهج، رغم آلاف القذائف التي سقطت عليها من الجانب الايراني، وموضوعة كهذه يقيم عليها وارد بدر السالم اجمل قصصه واغناها في المجموعة.
 ان "طفولة الصفصاف" تحكي بتقنية رسم المشاهد وتوليفها، وخلق قصص صغيرة ضمن الحوار، عن زوجة شابة وطفلتها الذكية واسئلتها التي تستَلها من حرارة الموقف (قصف المدينة) وثمة حضور – غياب للمقاتل الأب، الذي يقطع على الزوجة آلامها من الانتظار وخوفها من القصف ورعب الطفولة مما حولها :"ستأتي انشاء الله وسترى الحائط المخزوم بالشظايا، ونافذة المطبخ المحطمة ... آوه لو تدري كم يقصفوننا في النهار .. فظيع .. اتدري بماذا تشعرك البيوت الساقطة؟ آوه .. اكاد اسمع انهيار البيوت واسمع قضقضة جدرانها وسقوفها الهاوية وصليل زجاجها المحطم .. فظيع .. الصغار يموتون تحت الانقاض .. لقد عذبتني هند".
وهذا المقطع المستل من قصة "طفولة الصفصاف" التي منحت الكتاب عنوانه، يعرفه جيدا من اخذته الحرب من احضان امرأته والصفاء الرقراق لزاوية محببة في بيته وكركرة طفله، وهو في دقة التصوير و صدقه ايضا، جعل لقصص وارد بدر السالم سمة لا تتنازل عنها ألا وهي "الشرط الانساني" كحضور فاعل بعيدا عن الايهام والسطوع المبالغ فيه ... وهو (الكاتب) يمضي الى ابعد من ذلك ويؤكده :"نحن لا نمزح عندما نقاتل وعندما نموت".   
ولضحاي الحرب وقفة خاصة في قصص المجموعة ، والكاتب لا يربكهم بكآبة روحية قاتمة، انهم يعودون في قصصه دائما، "فالشهيد جبار" كما في قصة "رسائل حب" حاضر في كل رسالة تبعث بها (خالدة) اليه على عنوان منزله، وتظل بذلك تشعل الاشياء بالذكرى والحنين، والقصة توفرت على فكرة جيدة لكن القاص تعامل معها هذه المرة بركود ذهني فلم ينجح في ايصالها الى ذروة درامية توحي بها..
وفي قصة "خروج الى الابد" يعود القتيل الى حارته، ثمة اليافطة التي ترثيه مع تذكير بقيمة الشهادة عند الله، الايقاع الحياتي التقليدي للجيران، استراق السمع لاحاديث العائلة (يتحسس اثر الغياب)، استرجاعات لحظة ما قبل الموت، تفقد اصدقاء الموضع، الاسئلة عن جدوى العودة وتغيير ما تم الانتهاء اليه، لقد توضح له ما كان يخشاه: اعتياد غيابه !! "لقد حزنوا بما يكفي، وانا تفسخت بما يكفي ايضا ولكن ما ذنبي !؟ لقد تحولت الى ذكرى وتاريخ غير مهم، انا تلك القطعة المعلقة على الحائط والتي تلعب فيها الريح".
صورة باردة كهذه تستجلي قدرة القاص وارد بدر السالم على الذهاب بقضية الحرب في قصصه الى آخر المدى، الى عمق احزان الجنوبيات .

*نشرت في مجلة "اليوم السابع"  العدد  191 الاثنين 4 كانون الثاني 1988 ووضعت لها المحرر الثقافي للمجلة هذه المقدمة: "صدرت في بغداد، مؤخرا مجموعة قصص جديدة للكاتب الشاب وارد بدر السالم، تضم عددا من النصوص المستقاة مباشرة من تجربة الحرب والاستشهاد .. الأديب علي عبد الأمير قرأ المجموعة ....... وهنا رأيه فيها ..".



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM