علي عبد الأمير
أحسب ان ابراهيم نصر الله، الشاعر والروائي ولاحقا صاحب العين المختلفة التي انتجت لنا مشاهد فوتوغرافية عبر معرضه "سيرة عين" واقامه في دارة الفنون – مؤسسة عبد الحميد شومان، أحسب انه يقدم نتاجه المتنوع والغني في آن، اعتمادا على طريقة منظمة وغاية في الدقة، حتى ان اعماله الروائية أجدها وقد حققت حضورا إعتمادا على (شاغر) يعلن عن نفسه في الحقل الروائي الفلسطيني، وقد دخله نصر الله بتمكن وفاعلية حضور عبر وعي لفنية العمل الروائي واشتراطاته، كما كان لنقله اللغة الشعرية من جنسها المحدد الذي تشتغل فيه عادة (القصيدة) إلى بُنية العمل الروائي, أثره في تحقيق لمسة خاصة به في الرواية.
وعمله الروائي الجديد "طيور الحذر" لا يشذ عن قاعدة ذهبية في بُنية لغة الرواية عنده، غير اننا لسنا بقصد البحث في هذه الموضوعة بل في قضية اخرى تحضر مع روايته الجديدة بقوة، وهي في التقاطه المميز لفكرة: "تعليم الطيور او العصافير مهارات تتمكن من خلالها عدم الوقوع في الفخاخ التي ينصبها الصيادون "، كما أثارت الرواية إنتباهنا في قدرتها على تحويل تلك الفكرة الى معطى كتابي يدخل في نسيج العمل بتلقائية جعلت تنفيذ الفكرة يبدو منسجما ودونما اسقاطات أو قصديات مسبقة تقلل من فضاء "البراءة " الذي لعبت عليه الرواية.
الشاعر والروائي ابراهيم نصر الله: الابداع في تجلياته المتنوعة
إضافة الى براعة الالتقاط لهذا الفكرة، تبرز أمامنا تقنيات ناجحة استخدمها نصر الله، ومنها تقنية السرد الروائي، وتقسيم الاحداث على مراحل هي مقاربة لمراحل تاريخية عاشتها القضية الفلسطينية والبدء مع لحظة ولادة الطفل او ما قبلها، إشارة لظهور علامات وعي جديد للقضية، لا يندرج لاحقا في الأشكال التقليدية، بل يذهب الى الشخصي والمتفرد في إكتشاف الاشياء والعلاقات ومن ثم اقامة منظومة من الدلالات تؤكد وحدة الفكرة وتنوع تفاصيلها, ذلك التنوع الذي يؤكد غِنى المشهد المعيوش وتعدد مستويات تشكله. كما ان عامل نجاح آخر بدا واضحا في تمهيدات الرواية، ألا وهو تكوين المشاهد ورسمها حسب رؤية الطفل وحسب مداركه البصرية، على الرغم من تضخيم بعض تلك المدارات الرؤيوية، فالسماء مثلا كانت بالنسبة لرؤية الطفل "قطعة زرقاء تظهر من خلال النافذة " وغيرها من الرؤى البصرية وحسب تفسير بريء من الطفل، غير ان هذا التماسك، خاصة في المقاطع التي غلبت عليها اللغة الشعرية والتي مالت هنا الى التأويل واقامة المرادفات الشعورية والحسية للظواهر الاولية التي بدأ الطفل في اكتشافها وتسميتها : "لماذا لا يكون هذا البيت الجميل خارج بطن الأم"؟ فإننا هنا نجد حضور اسبقيات الوعي في "بيت" ومن ثم "جميل" بالنسبة لمدارك طفل وإن كان قد بدا عند نصر الله أقرب الى "الخارقية".
إن تعرّف هذا الطفل الى الطيور والعصافير، تحول من علامات حياتية الى دلالات حاضرة، بل انه تحول لاحقا الى كائن (يهضم) في داخله اجنحة وريشا ومناقير ورؤوسا لعصافير تجعله اقرب للطيران منه الى المشي على الارض، حتى انه حين شعر بالوهن في اثناء المرض، تحولت هلوساته الى مشاعر طير حقيقي، برع ابراهيم نصر الله في الإمساك بها وإقامة نوع من الاتصال غير المباشر مع الوقائع الارضية – مخيم فلسطيني قد لا يختلف عن الكثير الذي لخّص غربة الفلسطيني ومعاناته وتوقه الدائم للوطن – بل انه استثمر حريته في تشكيل النص عبر تلك الفسحة ( الطائرة ) ليقيم مقابلات ما بين الطيور والقفص – احلام الطفل ورؤاه وتشكلات جسده وهيئته الآدمية العادية – وراح يلعب ضمن هذه الفسحة في اكثر فصول الرواية غِنى تعبيريا وخيالا. حين تكون هناك فضاءات وقدرة على التحليق، تكون بالمقابل دلالاتها، حرية وتوقا الى التغيير والتنقل السهل الممكن دائما، غير انها بالمقابل تُقابل بالاقفاص ! أقفاص من كل نوع، فهي تارة أقفاص الوهم بإمكانية القبول بالمحقق والبسيط، أقفاص الوهم بمجرد النجاة والخروج من دائرة الهلاك، أقفاص القمع المستديم للرغبات الاولية التي لا تخفي توقها الانساني، ثم أقفاص اخرى هي مقاربة للوعي النمطي الفلسطيني للقضية وأقفاص لقمع طرق الوعي المغايرة أو تلك التي تحاول الخروج عن النمط وقعقعة الاسلحة اللغوية وخيبات المواجهة، لذا كانت رواية ابراهيم نصر الله, خروجا على هدوء وسكون وحياة اقرب الى الفقد منها الى الحضور، انها بحق تحليق فوق وقائع تجيد نصب الفخاخ والاقفاص، وهي توق للخروج من كل العثرات المصاحبة لهذا المشهد حتى وإن كان طيرانا.
*قراءة في رواية "طيور الحذر"- دار الآداب - بيروت 1995 ونشرت في مجلة "مشارف" التي كان اصدرها الراحل اميل حبيبي ضمن باب كنت اكتبه بعنوان "اصدارات جديدة" |