علي عبد الامير
بعد كتابه المثير للجدل "حديقة الحواس" و صادره الامن اللبناني، لما فيه من وصف إباحي كما يذهب امر المنع، يأتينا الشاعر عبده وازن بكتابه الجديد "أبواب النوم" بتشكيل مخالف لما احدثه فينا كتابه الاول، فمن شكل النص المفتوح المطول، المعني بتصويرية شخصية لموضوعة محددة مع جوقة مشاهدها المرافقة الى مقطّعات قصيرة، يتشكل كتاب "أبواب النوم" وعلى الرغم مما تشي به النصوص من تشابه وتجاذب وتقارب، فهي تعنى بتصوير الخفي من ملامح الموجودات والكائنات والاشياء ولكنها ليست الغاطسة في عمق الخفاء وتحتاج لنفس لا تخدعها الظواهر الماثلة للعين كي تكتشف وجودها "السري" وتجد متعتها الفنية في ذلك الإكتشاف، إنه يذهب الى اقامة قراءة "شخصية" لمعالم حياتية تتشكل أمامه، يقيم طريقة تعاطي تعتمد مرجعية ذاتية دائما، جلها إظهار الاشياء وهي تقترب من غياب الملامح، او هي مضببة نوعا ما، هي حالة الاقتراب من النوم، التي تهدأ فيها سطوة الوضوح لتبرز أشياء أقرب للقراءة الروحية لا تلك التي تتمظهر بملامحها الثابتة فيزيائيا، فتتحول "الغيمة" الى "ملاك" و "السماء" الى "عطر قديم" و "الزهرة" الى "جرح غائر" و "العصفور" الى "سهم الصباح" و "اليمامة" الى "عشبة الارض الاولى" والى غير ذلك من التقابلات، التي لو استرسلنا في ذكرها لوصلنا الى نتيجة مفادها تحول الفعل الشعري عند عبده وازن الى نوع من تغييب الحضور للخارج مقابل الاحتفال بالجوّاني حتى وإن بدا مرآة عاكسة للخارج، كونه – اي الخارج – منظورا اليه من منظور شخصي تماما :
الزرقة التي ظننتها بحرا
لم تكن إلا ذكرى يديك
الزرقة التي تسللت الى عينيك
لم تكن إلاّ كآبة غيمة
لم تألفها السماء.
هنا سنجد "زرقة السماء" تتحول دلاليا الى "ذكرى يد" و "زرقة العينين" الى "كآبة الغيمة"، وتتبادل المنظورات البصرية مع التأثير الانساني بطريقة تدل على وجود منظومة فعل حي وخلاّق هي مسؤولة عن هذا التراسل وما الشاعر إلا رائيا يتعقّب شفرات تراسلها :
زرقة السماء ( منظور بصري معلن ) يتحول الى ذكرى يديك ( تأثير انساني )، والزرقة في العينين ( بصري وانساني معا ) الى كآبة غيمة ( انساني وبصري معا )، وهذه الطريقة التوليدية تكاد تطغى في حضورها عبر اغلب نصوص الكتاب، غير انها لا تفقد جاذبيتها وقدرتها على إحداث فعل الاهتمام عند المتلقي حين تظل قادرة على البوح وتشكيل مشاهدها، مشاهد – كما قلنا – لا تعلن عن منظوراتها، بل تحتاج لمن ينقِب بحثا عنها.
هم الغرباء الذين غابوا
قبل ان يلفح البرق وجوههم
لم يحددوا وجهة لخطاهم
راحوا يبحثون عن اطياف
يفقدونها كل ليلة
في البرد القارس لسمائهم القليلة.
الشاعر والصحافي عبدو وازن (كاميرا على عبد الامير)
أهو إذن البحث الجوّاني والرحيل الى حدائق سرية يتوارى في كائناتها وحيواتها، ذلك الذي يتمكن من الشاعر عبده وازن؟ هو هكذا عبر امكانية هذه القراءة، وانك لتجد الشاعر وفاعليته أقرب للمحو ويدع جانبا كل تلك التصويرات الثقيلة للشاعر بوصفه كائنا فائقا يعيد تشكيل المشاهد حسب "أنا" تتفاقم فتصبح مركزا ضاغطا وقسريا ينضم الى قائمة اخرى من أدوات القسر ووسائله التي تحيط بنا، إنه يبوح ويحتفل، يبوح عن إكتشافاته الصغيرة ويحتفل بهدوء واقرب للخفاء باللقى التي اكتشفها :
من يستسلم للضوء المنبثق امام عينيه لا يلتفت
الى الوراء ولا إلى الأفياء عن يمينه
الى الضوء يمضي ناسيا انه ضوء عينيه.
وهو بذلك يذهب بنا بعيدا عن انتظام فاقع تأخذه اشكال السطح للممارسة الانسانية ومآثرها حيث تخبو الروح امام سطوة الاعلان عن تلك الممارسة والتي غدت متشابهة بل إستنساخية تهمل الشخصي والمتفرد :
القليل من الربيع يكفي لصنع معجزة
في شتاءاتنا الطويلة لا نحتاج إلا إلى سنونوة تطرق كنيسة عيوننا
إننا اقل تفاؤلا ولكن اقل يأسا ايضا
الايام لا ترجع الى الوراء حتى وإن سقطت اوراقها على الضفاف
إنها ايامنا الغابرة التي لا نعرفها.
شعرية جديدة دونما إلتواءات لغوية
كتاب الشاعر عبده وازن يعيد السؤال مرة اخرى: هل الشعرية الجديدة مرادفة للغة مقعّرة ملتوية؟ هل هي بالضرورة على الضد من لغة صافية تدير ظهرها لغموض عبثي؟ ودون ان يقصد الاجابة، يقدم لنا الشاعر مثالا على شعرية جديدة دونما التواءات لغوية، دونما غموض مجاني ودونما استخدام عابث، ثم من قال ان الحديث في الشعر يعني قطع الطريق على الروح والصورة في اللغة؟
*قراءة في ديوان "أبواب النوم" (دار الجديد، بيروت1996) ونشرت في مجلة "مشارف" التي كان اصدرها الراحل اميل حبيبي ضمن باب كنت اكتبه بعنوان "اصدارات جديدة" |