نقد أدبي  



يوسف الصائغ منكفيء في بغداد

تاريخ النشر       02/01/2010 06:00 AM


صاحب "سيدة التفاحات الأربع" يخرج من صمته لكنه لايقول شيئا

عمّان –علي عبد الأمير*
حين كان الشاعر والكاتب المسرحي والروائي العراقي يوسف الصائغ يطل على نهر دجلة من نافذة غرفته مديرا عاما للسينما والمسرح في بغداد فانه بالكاد كان يصرح عن الجانب الشعري فيه ، حتى ان الزميلين بيار ابي صعب وحسونة المصباحي بذلا جهدا غير اعتيادي كي يتمكنا من اقتناص حوار معه كان فيه الصائغ غاضبا من حال الشعر والشعراء ، فجاء الحوار المنشور في مجلة " اليوم السابع" الباريسية اواخر العام 1989 " ماكو شعر .. ماكو شعراء" .
وبعد سنوات طويلة على ذلك الحوار الصاخب استسلم صاحب " انتظريني عند تخوم البحر" لموج متدفق من الخيبات السياسية والإنسانية ، فلا تنازله عن شيوعيته لصالح البعث الحاكم اثمر في علاقة سلسة مع سلطة بغداد ( ابعد عن منصبه الى نسيان احكمت المؤسسة الثقافية اقفال ابوابه) ولا زيجاته المتعددة ابعدته عن الشعور المفرط بالوحدة ، مثلما لم تكن كتابة المذكرات ولا العمود الصحافي تعويضا عن صرخات يائسة كانت تعصف في رأسه متساءلة عن غياب الشعر فيما الأصداء تردد " ماكو شعر ..ماكو شعراء"!


يوسف الصائغ: الشاعر في خيباته الانسانية والسياسية

واليوم يغالب الصائغ في بغداد احساسا متفاقما بالجزع ، فالمرض احكم الحصار حوله( كاد يفقد حياته بتأثير ثلاث نوبات خلال اربع سنوات) ، والنهار يبدأ شاحبا محنطا مع انبوب الأوكسجين لعالج " الربو" المزمن وفي غرفة تيبس الزمن على جدرانها. وحين كان الصائغ قادرا على ان يؤمن مساءات للصداقة تخرجه من يأسه الذي فيه كان يتحلق حوله شعراء " صعاليك " تحولوا لاحقا الى مجالسة الشاعر حميد سعيد متمثلين الحكاية المعروفة" الصلاة خلف علي أثوب ، ولكن الصلاة خلف معاوية أدسم".
ضمن هذا المدار الضيق لم يتمكن اديب او شاعر أو صحافي  من اخراج الصائغ من عزلته عبر حوار يقول فيه صاحب " اعترافات مالك بن الريب الأخيرة " اشياء عن شعره وعن تجربته التي تنوعت واغتنت بين اجناس ادبية وفنية . وهذه " القاعدة " وجدت قبل ايام استثناءها حين خرج الصائغ من صمته حين نشرت صحيفة " الزمن" الإسبوعية الصادرة في بغداد حوارا مع صاحب رواية " اللعبة" لم يقل فيه شيئا لافتا يقارب عمق تجربته ومنعطفاتها المثيرة للجدل فكريا وانسانيا ! وعلى نحو ثلثي الحوار كان الصائغ يتجاذب الحديث مع الصحافية " حول اكتشافه المتأخر لجمال عينيه وسعتهما " فيما كان الباقي كلام اقرب الى الصمت اذا ماقورنت اجابته بالمأزق الإنساني والوجودي الذي يحياه اليوم مركونا الى صمت محكم .
 وردا على سؤال "اي الفنون الادبية يثير فيك المتعة اكثر من سواه الشعر ام القصة ام الرواية"؟ يجيب الصائغ:" هذا سؤال مكرر وانت تريدين مني ان اجيب اجوبة مبتكرة، وسأقترح عليك ان تصلحي من شأن سؤالك، اسمح لك ان تستبدليه شرط ان يكون سؤالا استفزازيا والا اصابني الملل". والسؤال " الإستفزازي " كان "من هو اعظم شاعر في العالم"؟ليجيب" انا... ثم اضاف ضاحكاً:
اليس هذا هو الجواب الذي تستحقينه والا فما معنى اعظم شاعر وما معنى اعظم شاعر في العالم كأنما تسألين عن اطول انسان او اقصر انسان او اكثرهم سمنة.. فيجدر بك ان تقنعي باجابتي التي ستثير عند القارئ شيئا من السخرية لما فيها من ادعاء..! وكثيرا من الغضب عند اصحابي الشعراء..
وبالمناسبة لقد شهد تأريخ الشعر العربي وحتى الاجنبي الكثير من الشعراء المغرورين او من ذوي الاعجاب بأنفسهم وشعرهم (وعلى رأسهم) البحتري فقد كان اذا انشد شعرا ولم يظهر السامعون اعجابهم به يتوقف عن الانشاد ويصيح بالحاضرين."ما بالكم لاتقولون احسنت.. ان هذا والله لايقوله غيري" بل وحتى المتنبي.. الم يقل لسيف الدولة.ان ما يقرأه الاخرون من شعر في مدحه ما هو الا ترداد ولما قاله هومن قبل" .
وردا على السؤال ذاته " من هو اعظم شاعر في العالم"؟ يقول" الاطفال هم اعظم الشعراء "، ومن الأطفال بوصفهم " اعظم الشعراء " الى رؤية الصائغ للشعر العربي القديم والمعلقات بخاصة "لطه حسين اراء طريفة في بعض المعلقات بل اطرف ما في ارائه تلك ميله الى الاعتقاد بأن بعض المعلقات او بعض المقاطع فيها (منحولة) مستندا الى التناقض بين لغة هذه المعلقات ومضامينها مع الزمن الذي تنسب اليه، ولقد جعلنا طه حسين برغم ذلك نتبين وجهة نظره هذه في (معلقة لبيد) وان نحب هذه المعلقة باعتبارها شعرا ينتمي الى ذلك الزمان.. باختصار انا اعتقد و على مسؤوليتي ان المعلقات هي ليست احسن ما ورثناه من الشعر العربي القديم وهي بالتأكيد ليست على مستوى ما تتمتع به من شهرة، ان "ملحمة كلكامش" باعتبارها شعرا هي انضج واعمق واكثر شعرية من كل هذه المعلقات رغم انها وجدت قبل وجود هذه المعلقات بمئات السنين، بل هي عندي مادام الحديث عنها اعظم ملحمة شعرية في تأريخ الادب العالمي ومستعد للدفاع عن حماستي هذه".
وعن سيادة " المزاج الحزين " في الشعر العراقي والعربي قديما وحديثا قال " انه مزاج الشعر والشعراء اساسا فالتجربة الشعرية الحزينة اقرب الى الشعر من التجارب المفرحة، ولعل اجدادنا الشعراء بسبب ما عاشوه من ظروف لم يتعرفوا على الفرح بشكل كاف ولهذا استقوا شعرهم من منبع معاناتهم خذي الرثاء مثلا بل حتى الهجاء انه تعبير عن الحزن والغضب بطريق احسبها شاذة".
وعن "شعر المديح" الذي صار تيارا بارزا في شعر العراقيين المكتوب داخل البلاد وكانت للصائغ " لمسة" خاصة فيه حين كتب " تنفتح ابواب التأريخ فيدخل صدام حسين" يقول صاحب " سيدة التفاحات الأربع ":
"ماذا بوسعي ان اقول ولابد من الاعتراف على ان الشعر العربي برهن على جدارة ملحوظة في هذا المجال،  المديح الذي استخدمه المتنبي عندما مدح الامراء والولاة من لم يكونوا يستحقون المديح! والاكثر دلالة في هذا المجال انه استخدم كل مواهبه الشعرية لتحقيق مستوى عاليا... والاغرب من هذا كله ان مدائح الشعراء هذه كانت فعّالة رغم ما تنطوي عليه من مبالغات واكاذيب.. وان الناس كانوا يتلقونها باعجاب.. فما من ناقد من نقاد ذاك الزمان وجد ان هذا النمط من الشعر رخيص لافتقاره الى الصدق هذا بالاضافة الى ان الشعراء المداحين كانوا يتقاضون ثمن مديحهم بل ربما كانوا يعتاشون على هذا المديح باعتباره مهنة ومجالا للنفوذ".
وفي "ملامح فيها ضيق واضح" اجاب على سؤال حول راهن الشعر:
"الشعر الان في محنة يسمونها عادة ازمة وهي محنة او ازمة ليست جديدة.. يبدو لي كأن العالم قد فقد شهيته للشعر، كأن الناس ماعادوا بحاجة اليه ليس عندنا نحن العرب حسب بل حتى على المستوى العالمي لقد مر زمان كنا نعرف فيه على نطاق العالم شعراء كبارا... خذي مثلا سان جون بيرس و ت.س. اليوت واراغون وبول ايلوار وناظم حكمت ووالت وايتمان وسواهم ، وكان شعرهم يملأ الدنيا ويشغل الناس وكانت قصائدهم تحفظ وتترجم وتدرّس... فأين نحن من اولئك الان او بمن بمستواهم الان، وتتضح الصورة اكثر على المستوى العربي ثم وحتى على المستوى العراقي...
ان اطرف ما يحضرني في هذا المجال ان يأتي مطرب وملحن فلا يجد قصيدة يغنيها سوى بعض ابيات لنزار قباني كتبها منذ ما يقرب من نصف قرن .ان في ذلك مغزى بليغاً يفضح عمق الازمة التي يواجهها الشعر على مستوى الجمهور والحياة العامة ".

* نشرت في "الحياة" العام 2000


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM