نقد أدبي  



هل تأثر السياب فعلا بالشعر الصيني القديم ؟

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       02/01/2010 06:00 AM


عمّان –علي عبد الأمير
كان بدر شاكر السياب  اصدر  في العام 1955 ، مجموعة شعرية مترجمة ، حملت   عنوان "قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث" ضمت قصائد من عشرين شاعرا  من مختلف بقاع العالم  ، منها قصيدة نسبها السياب للشاعر  إزرا باوند ، هي "رسالة من زوجة تاجر النهر" و لم يذكر السياب ، في الملاحظات التي ذيل بها المجموعة شيئا عن "اصل" القصيدة ، سوى انه ترجمها شعرا . وفي تقدير الشاعر والناقد الفلسطيني المقيم في العراق منذ سنوات طويلة ، خالد علي مصطفى ،  فان جميع من قرأوا  القصيدة التي ترجمها السياب ،  مازلوا على ظنهم ان القصيدة لباوند .
ويقول استاذ الأدب في الجامعة المستنصرية ببغداد" رافقني هذا الظن ، ايضا ، مدة طويلة ، الى ان وقع في يدي كتاب باللغة الانكليزية ، عنوانه "عزرا باوند: مختارات شعرية 1908 ـ 1959" ؛ فوجدته يتضمن ، في جملة ما يتضمن، طائفة من القصائد مندرجة تحت عنوان عام ، هو "كاثاي" ؛ وقد مهد لها الشاعر الاميركي بملاحظة سريعة تشير الى ان هذه القصائد هي من الشعر الصيني . ثم وجدت ان القصيدة التي ترجمها السياب هي احدى قصائد (كاثاي) ، وتحمل العنوان نفسه : "رسالة من زوجة تاجر النهر" . ولما كان الجزء يدل على الكل ، فلابد من ان يكون السياب على علم بجميع القصائد الصينية التي ترجمها عزرا باوند الى الانكليزية ، على قلتها ، فهي لاتتجاوز الثماني عشرة قصيدة قصيرة ؛ بل قصيرة جدا احيانا ".
هذا المدخل يسوقه مصطفى مبررا للسؤال"هل تركت هذه القصائد الصينية ، التي ترجمها عزرا باوند الى الانكليزية، اثرا في شعر السياب ؟"
 وفي بحثه علامات الشعر الصيني  في قصائد السياب  يقول الشاعر والناقد مصطفى "تشيع في شعر السياب صور اقتران الماء بالحزن في صيغ متعددة ؛ كأن يقول في قصيدة "النهر والموت :
وتنضح الجرار اجراسا من المطر
بلورها يذوب في انين
(بويب .. يا بويب !)
فيدلهم في دمي حنين
اليك يا بويب،
يا نهري الحزين كالمطر
لاشك في ان المقطع المذكور، كبقية مقاطع القصيدة دال على الماء، في جانب، في حين يدل على مشاعر الحزن الكثيفة من جانب اخر، بصورة يكون الماء فيها هو الحزن مرة (بويب.. يابويب)، وموصوفا بالحزن مرة  ثانية "يانهري الحزين كالمطر" . اما قصيدة "انشودة المطر" ، فتكاد تكون جميع صورها مستقاة من المفردات التي تدل على الطبيعة المائية التي يشيع فيها الحزن، على مختلف صور الطبيعة ودرجات الحزن فيها . ولعل المقطع الاتي اشهر مقاطع القصيدة في دلالة الماء (المطر) على الحزن لان الاقتران فيه جاء مباشرا :
اتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب اذا انهمرْ ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ؟
بلاء انتهاء ـ كالدم المراق ، كالجياع ،
كالحب ، كالاطفال ، كالموتى ـ هو المطر" .
و يؤكد الناقد ان هدفه هو التنبيه على ان الاقتران  بين الحزن والمطر "قد يكون اثرا من الاثار التي تركتها فيه قصائد (كاثاي) الصينية ، والتي ترجمها عزرا باوند الى الانكليزية، بدلالة ما ترجمه السياب منها الى العربية" ، لافتا في مقالة نشرها ببغداد مؤخرا تحت عنوان " السياب والشعر الصيني" الى ان في القصائد الصينية يشيع اقتران الماء بالحزن، على نحو مباشر او غير مباشر، تعبيرا عن تجربة جماعية، كقصيدة "مرثية حارس الحدود"، او تجربة فردية كقصيدة "غيمة تو ـ ام ـ مي الساكنة" و جاء في احد مقاطع  القصيدة الاولى :
ربيع بهيج تحول الى خريف دموي مفترس
صيحات المحاربين تعلو فوق المملكة الوسطى
 ثلاثمئة ، وستة الاف
وحزن ، حزن كالمطر
حزن يمضي ، وحزن ..حزن يعود
حقول مهجورة مهجورة ..
 ويعتبر ان "يانهري الحزين ، كالمطر" من قصيدة "النهر والموت" و"أتعلمين أي حزن يبعث المطر" لدى السياب، تضرب على الوتر نفسه الذي تضرب عليه القصيدة الصينية حين تقول : "وحزن ، حزن كالمطر …"
 ومع ان  خالد علي مصطفى يرى ان " المدى الانفعالي الحاد الذي يمكن ان تثيره عملية اقتران الماء بالحزن ظاهرة انسانية عامة، فضلا على انها تمثل احدى علاقات ارتباط الانسان بالطبيعة . ومن هذا الباب يمكن ان يقال ان الموضوع برمته لاجديد فيه، فهو "مطروح في الطريق"، كما يقول الجاحظ . وان السياب نفسه كان شاعرا بيئيا على نحو بارز، وكانت مجسات التقاطه رهيفة، قادرة على التقاط ذبذبات الطبيعة، ايا كان شكلها ولونها، لذلك كان حقيقا ان تكون عملية اقتران الماء بالحزن، احدى ذبذبات الطبيعة التي التقطتها مجساته الرهيفة، وحولها، بمخيلته الحسية المتفجرة، الى كيانات شعرية متكاملة، كما يتبدى ذلك في (انشودة المطر) و(النهر والموت) وغيرهما " الا انه يقول لاحقا:  "هذا لايمنع البتة، ان تكون القصائد الصينية محفزا للسياب على استثمار هذا الموضوع "المطروح في الطريق" وفي النفس ايضا، حتى وان جاء التحفيز بصورة غير شعورية، فضلا على ان الادلة التعبيرية التي ذكرناها تقيم وشائج بينة بين الشعر الصيني وشعر السياب" .
ويلفت مصطفى الى عنصر " مشترك " بين السياب والشعر الصيني  :" شيوع النغمة الرثائية في اكثر من قصيدة صينية، بما تتضمنه من صور الموت والخراب والحنين الى الاهل والوطن والاحساس بالضياع والعزلة من جهة، وشيوع رغبة الانغمار في الماء حتى الموت لدى السياب من جهة اخرى ـ يفضيان كلاهما الى اقتران الماء بالحزن، بحيث يصبح هذا الموضوع مركز استقطاب لدى كل منهما :
تنبثق منهما ثم تصب فيهما صور القصيدتين الصينية والسيابية، مهما كانت درجة ارتفاع النبرة او خفوتها . ولعلنا لانجد تعبيرا مكثفا عن الحزن اشد من هذا التعبير في "النهر والموت":
أغابة من الدموع انت ؟ ام نهر ؟
او هذا التعبير في القصيدة الصينية "مرثية حارس الحدود" :
اتعلم أي حزن موحش عند البوابة الشمالية ؟
وهو التعبير الذي نجد حتى صداه التركيبي في بيت السياب "أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟". غير ان هذا التشابه لايعني انهما (الشعر الصيني والسيابي) يتصلان اتصالا مؤثرا بمتأثر على هذا النحو التبسيطي،  اذ ان مثل هذه التراكيب الاستفهامية المجازية قادرة بذاتها على الاثارة العاطفية في الشعر القديم والحديث .

خالد علي مصطفى: هل هو تشكيك آخر بثقافة السياب؟

وهنا نعود( والقول دائما للشاعر والناقد خالد علي مصطفى)  الى القصائد الصينية التي ترجمها عزرا باوند الى الانكليزية، والتي قرأها السياب، ونقل واحدة منها الى العربية ـ لنجد قصيدة بعنوان "غيمة تو ـ ام ـ مي الساكنة" لشاعر اسمه تاو يوان منج (365 ـ 427م)، استعمل فيها التكرارات الثنائية والثلاثية لمجموعة من الكلمات، منها كلمة (مطر) وما يندرج في حقلها الدلالي (بحسب ترجمة باوند ، طبعا !) . ويخيل الي ان هذه التكرارات المسترسلة في القصيدة الصينية هي التي القت بظلالها على "انشودة المطر".
ويورد مصطفى  نص القصيدة الصينية،  لكي تتضح مواضع الالتقاء بينهما :
تجمعت الغيوم وتجمعت
والمطر يهطل ويهطل
طبقات السموات الثماني
تلتف في ظلمة واحدة ،
والطريق الطويل المنبسط يمتد
وقفت في غرفتي شطر الشرق، هادئا هادئا
امسد دن خمري
اصدقائي عزلوا عنى، او ارتحلوا بعيدا
اطرق رأسي ، واظل واقفا
××××××××××××
مطر .. مطر .. والغيوم تجمعت
طبقات السماء الثماني مظلمة
والارض المستوية تحولت الى نهر
"خمر ، خمر .. هنا خمر !"
اشرب امام النافذة
ولازورق ، لاعربة ، تقترب
الاشجار في الجانب الشرقي من حديقتي
تتفجر براعم جديدة
تحاول ان تثير عاطفة جديدة
يقول الرجال : ان الشمس والقمر دائبان على الحركة لانهما لايستطيعان العثور على مقعد مريح
ايا كان الاختلاف بين هذه القصيدة وقصيدة (انشودة المطر) ـ وهو اختلاف جوهري ناشئ من ان القصيدة الصينية غنائية ذاتية ، ذات انطباعات حسية متقطعة ، والقصيدة السيابية غنائية ذات ملمح موضوعي بارز ، الا انهما " تقومان على مهاد  واحد، واجواء تكاد تكون واحدة، بحيث يمكن ان نعد بعض الصور قاسما مشتركا بينهما . فعندما يقول الشاعر الصيني :
(تجمعت الغيوم وتجمعت / والمطر يهطل ويهطل ../ مطر ، مطر والغيوم تجمعت..) يقول السياب : (كأن اقواس السماء تشرب الغيوم / وقطرة فقطرة تذوب في المطر) ، او : (تثاءب المساء والغيوم ماتزال / تسح ما تسح من دموعها الثقال) ، او في نهاية القصيدة : (ويهطل المطر …) .
من ناحية ثانية ، تعتمد كلتا القصيدتين، في اثارة الانفعال، على التكرار الثنائي والثلاثي . فقد جاءت في القصيدة الصينية على هذا النحو (تتجمع وتتجمع / يهطل ويهطل / هادئا هادئا / مطر ، مطر ../ خمر ، خمر .. خمر) .
وينهي مصطفى اشاراته عن تأثر السياب بالشعر الصيني : " بالرغم من هذه الحدود الضيقة التي عرفها السياب من الشعر الصيني ، عن طريق عزرا باوند ، فانها حفزته ـ في الاقل ـ على ان يلتقط منها ما جعل من (مطر) تغوص في سر الوجود ، كما يقول د. احسان عباس ".
 
*نشرت في "الحياة" آواخر العم 2001
 


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM