نقد أدبي  



الشــعراء المعاصرون خـرجـوا من معطـف الســياب

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       02/01/2010 06:00 AM


كتاب عراقيون يستعيدون ذكـرى صاحب "انشودة المطر" 

 عمّان - علي عبد الأمير
في الرابع والعشرين من كانون الأول 1964 مات بدر شاكر السياب بعيدا عن وطنه، مكثفا في رحيله معنى مأساويا لطالما طبع حياته  القصيرة ( 37 عاما ) . وجاءت ذكرى رحيل صاحب " انشودة المطر " التي كانت ابلغ بيان عن الحدائة الشعرية العربية، لتدفع كتابا ونقادا عراقيين الى استعادة اثر الراحل مؤكدين ان " الشعراء العرب المعاصرين خرجوا من معطف السياب ".
وفي حوار كان اجراه الناقد والصحفي ناظم السعود مع الناقد عبد الجبار داود البصري ( رحل قبل ايام ) أوجز فيه أسئلة تخص محطات ومواقف في حياة  بدر شاكر السياب وشعره  انطلاقا من  الصلة الوثيقة التي كانت تربط البصري بالسياب في مناح عدة: شعرية و اجتماعية و نفسية وحتى جغرافية ، فهما  يرتبطان ببيئة واحدة هي البصرة، كما ان  البصري كتب كثيرا عن السياب في حياته وبعد رحيله وقد افتتح "المكتبة السيابية" بكتاب نقدي يعد اول كتاب نقدي كامل عن الشاعر الرائد.  قال البصري ردا على سؤال عن كتابه "بدر شاكر السياب رائد الشعر الحر" وهل كان اول كتاب نقدي في بابه؟ "نعم.. كتابي هو اول كتاب منهجي صدر بعد وفاة السياب ولم يسبقه سوى كتاب المرحوم محمود العبطة. وكان مجموعة مقالات اختارها العبطة من هنا وهناك وكتب لها مقدمة وكنت انا بين الذين اختار بعض كتاباتهم.وقد أشارت دراسات عيسى بلاطه و د. احسان عباس وناجي علوش وعبد الرضا علي وغيرهم لكتابي ضمن مراجعهم".
وعن قوله في مقدمة كتابه "انني ما ان عرفت بموت بدر، حتى أحسست بانني مدين اليه " وهل أوفى الدين؟ قال البصري :
"كنت أزورالسياب في "مستشفى الموانيء" بالبصرة ، وكتب عني في رسائله التي بعثها الى مجلة "حوار" وقد اهداني بعض دواوينه وتوقع لي مستقبلا جيدا وكان يثني علي في كل مكان.. فكان لكل ذلك وقع حسن في نفسي.. كنت اتحين لكي ابادله حبا بحب وارد الفضل الذي طوقني به فليس من الخلق ان يحييك شاعر مثل السياب ولا ترد تحيته.. وانا آسف جدا لاني لم اشترك في تشييع جنازته حيث كنت تحت وطأة ظروف قاهرة، ما ان زالت حتى بدأت اكتب عنه. وهو يستحق اكثر مما كتبت".
وحول ان كان  للسياب تراثا شعريا ونثريا  مايزال مجهولا؟ وهل ثمة جهات او أشخاص مازالوا يحتفظون بالكثير مما يخص السياب مخطوطات او تراجم او  رسائل؟ يقول البصري الراحل:
"تراث السياب النثري ما زال خارج اهتمام الباحثين وفي مقدمتهم سلسلة من مقالاته وقصصه التي نشرها في ملحق جريدة "الشعب". وربما كانت عائلته تحتفظ بشيء من نتاجه لان ديوان "اعاصير" الذي جمعه الاستاذ عبد الجبار العاشور لا يحتوي على كل ما ذكره السياب في ديوان له بعنوان "زئير العاصفة" كما ان ملحمته "الروح والجسد"، ربما يعثر عليها يوما ما عند احد ادباء مصر المعنيين بتراث الشاعر علي محمود طه المهندس.

السياب: من معطفه خرج الشعر العربي المعاصر
 
وفي الحوار الذي نشر في بغداد هذا الإسبوع  اشار البصري الى مفهوم الريادة عند السياب قائلا:"لقد فهمت الريادة على انها زعامة اتجاه فني في الشعر، وكونها تطويرا مستمرا لهذا الإتجاه، فالذين كتبوا الشعر خرجوا من معطف السياب اكثر مما خرجوا من معطف غيره، فهو رائدهم وبصماته واضحة في شعرهم وان ادعوا غير ذلك. وهو في كل قصيدة من قصائده كان يطور مفهوم الشعر الحر ويأتي بنماذج ناجحة لهذا التطوير كاستعمال البحور التي سميت غير صافية، وكالتداخل بين العمودي والشعر الحر، وكالسردية والحوارية في القصيدة، وادخال الاسطورة كمفردة شعرية واستغلال الفولكلور وغير ذلك. وليس المهم ان يزداد عدد الرافضين او ان يقلوا، فريادة بدر حقيقة تاريخية وفنية، ومدرسة السياب في نمو متزايد".
وفي نهاية كتابه الذي اكمله في منتصف 1966قال البصري  ان "الفراغ الذي تركه السياب من الناحية الفنية ما زال قائما"وردا على سؤال "هل ترى الآن، وقد تابعت اجيال الشعر من الستينيين حتى التسعينيين، ان لا أحد يستطيع ان يملأ الفراغ الذي خلفه رحيل السياب؟" اوضح البصري: "نعم.. ما زال الفراغ الذي تركه السياب فراغا، وتلك هي سنة الحياة، فالفراغ الذي تركه المتنبي مازال فراغا برغم الاف الشعراء العموديين الذين أعقبوه، ومازال الفراغ الذي تركه احمد شوقي فراغا، ومازال الفراغ الذي تركه شكسبير فراغا، ومازال الفراغ الذي تركه طاغور فراغا، وسيترك بعض شعرائنا الاحياء بعد عمر طويل فراغا".
  ثقافة السياب كانت مثار نقاشات وسجالات طويلة فهناك من قال ان ثقافته كانت محدودة  ولا تمهد الطريق أمامه للريادة ، كما ذهب الى ذلك الشاعر  العراقي سامي مهدي، وهو مالا يعتمده البصري حين يقول : الثقافة الواسعة ليست شرطا من شروط الشاعرية، فالشاعر الجاهلي امرؤ القيس او زهير بن ابي سلمى او طرفة وغيرهم لم يكونوا يعرفون ما نعرفه اليوم، وهناك مثقفون كبار لا يستطيعون كتابة قصيدة شعرية واحدة كما كتب السياب الذي تحصل على شهادة  جامعية ، اما ما كتبه  سامي مهدي فهو اجتهاد شخصي قاله في معرض الدفاع عن جيله وكان يتطلع الى نموذج شاعري وجد مقاساته لا تنطبق على السياب".

                            الأبداع بين السياب والبريكان
 من جهته بحث الكاتب العراقي  عبد الرضا جباره في مقالته "أواصر الأبداع بين السياب والبريكان" لافتا الى عناصر فنية وحياتية مشتركة بينهما "يرتبط الشاعران الكبيران بدر شاكر السياب ومحمود البريكان بعلاقة حميمة تمتد جذورها الى بداية الثلاثينات تربطهما اواصر محبة. ووشائج روحية. وقبل ذلك يربطهما الابداع والريادة في عالم الكلمة الفسيح".
 وعلى الرغم من المشترك مابين الراحلين البصريين ( نسبة الى مدينة البصرة) يرى الكاتب " وجدت ان رؤيتهما ومنطلقات تفكيرهما تختلفان ـ فالزمن: عند الشاعر البريكان ليس له ـ بعد مكاني. فهو زمن نسبي وقصائده تمنحنا الأحساس بالزمن في كونه (لحظة تشكل) يقول البريكان في قصيدة " اغنية رعب هادىء ": "لأن للشتاء عنفوان ـ لأن للخريف جماله/لأن للحديث والاغاني/صدى/ بلا زمان/ لأن للنار، وراء رقصها العنيف، جسما من الرماد، وروحا من الدخان".
اما  الزمن عند  السياب فهو يتدفق من الماضي فيصغي اليه بكل جوارحه فيغذي الكثير من رؤيته وتجربته الحسية وموقفه الشعري : "حديقتنا فيه تنضح موتا/ وصمتا/ وتنثر في اكتئابي/ وانت تلفين صمت الحديقة/ على غمغمات الأسى/ تطلين منها بعيني وفيقة/ على عالم خلف سور الحديقة".
 اما الصورة الشعرية فهي عند السياب "تتراكم بالتشبيهات وقد حاول الشاعر ابراز تكويناتها على (محمولاته البصرية) وعد معظم الذين درسوا شعر السياب. انه من مولدي الصور ـ أي من الشعراء الذين يشبهون الشيء بشيء آخر ثم يجعلون المشبه به، مشبها.. فالعينان كالكروم المورقة. والانواء كالاقمار في نهر.. والنهر يرجه المجذاف ساعة السحر. كذلك عرفت عن السياب كثرة استعماله لحرفي التشبيه (الكاف. وكأن) وفي "انشودة المطر"امثلة كثيرة على ذلك".
عند البريكان تبدو الحال مختلفة فان "ضمور واقعية البناء التعبيري لم يخدش الصورة الشعرية. بل ان المتلقي يرتبط بها ـ تأمليا ـ مع صيرورة يفترضها الشاعر.. وينجح باستبصاراته برسم الملامح العامة لها والكشف عن كوامنها من دون ان يلجأ الى المنظور الحسي : يقول البريكان "جئتم بوجه آخر جديد لي متقن حسب المقاييس المثالية/ شكرا لكم/ لااشتهي عينا زجاجية/ فما من المطاط لاابتغي ازالة الفرق/ ولااريد سعادة التماثل الكامل".
 وخلص جبارة الى القول :"المعنى عند البريكان هو المكون الدلالي والوجودي، وفي هذا يناقض السياب. فالهم الوجودي عنده يبدأ بالحضور. ثم الغياب ثم الحضور المنبعث من الموت. واذا كان السياب قد احدث انعطافة مهمة في الشعر العربي الحديث. فان البريكان قد احدث في ثقافته متعددة الروافد، مهارة شعرية".

*نشرت في صحيفة "الراي" الاردنية اواخر العام 2001



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM