محمود البريكان: غياب دموي كمصائر العراق
إنه المسكون بأسئلة الوجود، وبها كان مشغولاً عن الألعاب الاستعراضية والأضواء البراقة، وقانعاً بأن على الشاعر أن يواجه العالم وحيداً ليحرر ذاته، محولاً تجربته الشعرية إلى كشوفات روحية لا نسب لها في عرائش التزويق اللفظي أو النجاحات والموجات العابرة. لندقق قليلاً في النصّ التالي، وسنتعرف بشكل جلي على لمسة البريكان في جعل السؤال عن الإنسان المعاصر في مسيرته اليومية والمحسوسة يرتقي نحو السؤال الوجودي العميق دون مزيد من الغموض ودون انبهار بغرائبية اللغة:
يا أصدقائي هل عرفتم ذلك المخلوق
الشاحب الذي يجفّ صوته المخنوق؟
الكائن المخدر الهائم في المنام؟
الكائن الذي تبثّ كفه الصفراء
من حوله أشياء
ترعبه
أشياء
لا يمكن القبض عليها مرة أخرى!؟
يعرفه الظلام
تعرفه برودة الليل! وقد يكون
أيّ امرئ ترونه يسير في الطريق.
من مجموعته الأولى "حارس الفنار" 1958 -1969
لماذا يدفعنا غائب غامض إلى تذكره؟ وهل كفّ محمود البريكان عن كونه "الشاعر الغامض والإنسان اللغز"، هل لأنه لا يطلّ من نوافذ المعرفة المتداولة حدّ الابتذال؟ أم لأنه الذي دفع بالشعر والعمل الفكري إلى مستويات "رؤيوية" ؟ اليس هو القائل أمام تمثال السياب: "المرور بالشعر ليس عادة من العادات، إنه اكتشاف يغيّر، أو هو استضاءة بشرارة تضيء حدود الأبد"؟
ما بين المنفي القتيل في وطنه
والمنفي المتأرجح بأحلام وطنه
حين وصلني نبأ مقتل البريكان في فجر أحد الأيام الأولى من آذار العام 2002، كنت منتظماً في عملي الصحفي والفكري بمنفاي الأردني، وعبر ما كان لي متاحاً من حرية، فقد نشرت تقريراً مفصلاً عن الراحل في الصفحة الثقافية لجريدة "الحياة"، التي كنت مراسلها للشؤون العراقية من العاصمة الأردنية. كان هو المنفي وإن كان داخل وطنه، وكنت انا المنغمس بكلّ ما ينبض به العراق وإن كانت خارجه. كنا نشكل مفارقة لفظية ودلالية في معنى المنفى والاغتراب. المنفى شائك ومعقد وموحش، والوطن حلم عميق، وأنا مأخوذ به تماماً لا قضية لي غيره، ومن هنا كان الانهماك بالبريكان طريقاً ما إلى الوطن، واحتفاء به من نوع خاص، فامتدّ الاهتمام به إلى مجلة "المسلة" التي كنت أتولى تحريرها صحبة عدد من الزملاء الكتاب والأدباء والصحافيين العراقيين في المنفى ومن بينهم الناقد والباحث د. حسن ناظم، وهكذا كان للراحل ملف خاص في المجلة، بينما كانت البلاد تمضي قدماً إلى متاهة لطالما كانت حاضرة كمعنى عميق في نصوص "حارس الفنار"، وحفاوتي به كانت محاولة للإجابة عن سؤال "لماذا يدفعنا غائب غامض إلى تذكره"؟
أعود هنا ثانية إلى التنقيب في قدرة البريكان على تحويل العزلة إلى نبع من التأمل العميق في المصير الكارثي للإنسان المعاصر، لكن ليس بالضرورة أن يكون ـانقطاعا عن المصير البشري- ففي لقائه مع مجلة "البيان" الكويتية في العام 1969، قال رداً على تهمة العزلة والغياب: "من الأدباء من يتطلعون إلى مستويات خاصة ويطمحون إلى إنجازات حقيقية باقية، وإلى تحقيق أعمال فنية كبيرة، إنهم يتمسكون بأصالتهم أمام مختلف المؤثرات، فمن الطبيعي ألاّ ينخرطوا في أية جوقة، وأن يبتعدوا عن الأجواء الأدبية الدعائية، إنهم مشغولون بالحياة والإبداع، وهم يريدون أن يخدموا قضية الإنسان بالطريقة التي تناسبهم، فبالطبع يكتب المرء ليقرأه الآخرون، ولكن من حقه أن يقرر أسلوب التزامه، الأمر قناعة شخصية وعلى كل أديب أن يقرر طريقه، وأن يحدد وسائله ومجالاته تبعاً لذلك، ولئن كان الأديب مسؤولاً، فإنه حرّ في أن ينهض بمسؤوليته وفق ضميره الخاص".
فرادة البريكان وعتها الأجيال الأدبية في العراق متأخرة مرتين، الأولى في نهاية عقد السبعينيات والهزيمة التاريخية للنمط الدعائي في الأدب، وإن جاء في هيئة "الانتماء للقضايا الأنسانية الكبرى"، وتزامنها (تلك النهاية) مع التداعيات الكارثية للحرب العراقية الإيرانية التي أيقظت في رؤوس العراقيين أسئلة، وإن كانت تأخذ شكل القبور المفتوحة للجنود القتلى، والمرة الثانية مع نهاية "الدولة العراقية المعاصرة" التي بدأت مع "هزيمة" حرب الخليج الثانية 1991 و"انتصار" النظام الحاكم على أغلبية الشعب. في كلتا المرحلتين، كان يتراجع الواقعي واليومي وينهض السؤال الأبدي، السؤال الذي يمسك بالعقل حتى وإن كان في مستوياته البدائية. معرفتنا بالبريكان كأجيال أدبية عاشت الربع الاخير من القرن الماضي في العراق، كانت تستيقظ كمن يلوذ بآخر خط للدفاع عن وجوده. إنها المعرفة التي خانت وتنكرت لما كان أورده الرجل في العام 1971 ضمن كلمته العميقة أمام تمثال السياب: إن "القضايا الأدبية لا تجد لها مكاناً في مهرجانات الأضواء البراقة والقاعات الباذخة وإن هذه الأمكنة بالذات هي التي هُزم فيها الشعراء ويهزمون، فقد مجدت أسماؤهم ودفعت رسالاتهم ناقصة بأن حولوا إلى أوثان وبقي الحقد والشر والفزع وكل شيء قبيح قائماً في الارض كما كان ملوناً كل شيء بألوانه".
من أين تأتي القصيدة وإلى أين تمضي؟
بحسب البريكان هي مواجهة بين الشاعر والعالم، وخلاص الشاعر يكمن في نزاهته وليس في المراوغة واحتساب الأرباح والخسائر الشخصية، بالضبط مثلما هي مسؤولية كلّ قضايا البحث عن غاية الوجود ومعناها. وفي مثل هذه الحال، لا يعود المشهد القائم مهماً، ولا الحضور فيه هدفاً، فحين تقاس قضايا الإنسان بمعيار مكاسب هذا الفرد أو ذاك، تتحول إلى قضايا خاسرة فوراً رغم الأرباح التي يغرق بها الأفراد. البريكان بهذا المعنى مغامر مأساوي وليس مجرد الشاعر الأهم والأبرز في فترة تاريخية أو صامت غائب.
انهيارات جمة كانت تنهض من حولنا، ومن بينها انهيار فكرة الشاعر "المنتمي"، لنصل إلى إضاءات من فكرة مغايرة، فكرة الشاعر "التنويري"، الشاعر الذي يصنع الأفكار الجميلة والخلاقة، وليس اللغة الجميلة وحسب، ففي حوار أجراه معه الشاعر حسين عبد اللطيف، ونشر في مجلة "المثقف العربي" في العام 1970، يقول البريكان: "يبدو لي الشعر فناً لا يقبل التسخير، ولا يحيا مع الحذلقة. ليس الشعر وسيلة لتحقيق أيّ غرض مباشر، ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجّة، ومن ثمّ فهو لا يخضع للتنظيم الخارجي، وقلّما يعكس رغبات الشاعر اليومية، لأن منطقته هي منطقة الذات العميقة".
البريكان: وقائع موت "معلن" لمبدع "غامض"
منذ العام 1986 كان البريكان يعيش هاجس ما حصل له في مطلع آذار من العام 2002. فقد كان يقول لزوجته "إياك ترك الباب مفتوحاً خلال النهار، خشية أن يتسلل لصّ أو مجرم، ويختبئ داخل غرف البيت ثم يقتلك ليلاً"، ولم يدر بخلد البريكان، في يوم ما، أن يتحول ذلك الهاجس إلى حقيقة قاسية، بعد أن حصل معه ما كان قد تنبأ به، ففي الساعة العاشرة والربع ليل الجمعة الأول من آذار، سمع البريكان طرقاً على باب الدار، فنهض حاملاً جسده، وهو البالغ 71 عاماً، متصوراً أن الطارق ولده الأكبر ماجد، عندما وصل إلى الباب الخارجي لم يجد أحداً، وعاد بخطواته إلى داخل البيت.
وكان قد ترك الباب الداخلي مفتوحاً لدقيقة أو دقيقتين، استغلها القاتل بعد أن اختبأ قرب الباب، وتسلل إلى داخل البيت، واختار مكاناً لا يقصده البريكان لتنفيذ جريمته البشعة بحق شاعر كبير وإنسان رائع وواحد من المبدعين القلائل الذين لاذوا بالصمت وزهدوا بالحياة.
في قصيدة قصيرة له كتبها في العام 1984 بعنوان الطارق يقول البريكان:
على الباب نقر خفيف
على الباب نقر بصوت خفيض ولكن شديد الوضوح
يعاود ليلاً أراقبه. أتوقعه ليلة بعد ليلة
أصيخ إليه بإيقاعه المتماثل
يعلو قليلاً قليلاً
ويخفت
أفتح بابي
وليس هناك أحد.
من الطارق المتخفي؟ ترى؟
شبح عائد من ظلام المقابر؟
صيحة ماض مضى وحياة خلت
أتت تطلب الثأر؟
روح على الأفق هائمة أرهقتها جريمتها
أقبلت تنشد الصفح والمغفرة؟
رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضة
ومهراً لأجل الرحيل؟
"الغامض" القرين بالعزلة، وحتى الخوف من الآخرين إن شئت، تحول من صورته كائناً متخيلاً مرسوماً بالفكرة واللغة إلى صورته المبثوثة في جنبات بيت بصري ضمن تفاصيل موت "معلن".
كانت عودتنا إلى البريكان أشبه بعودة الأبناء الضالين، نعود إليه حين تصفر ريح الهزيمة في البلاد وتنهار قضايانا "الكبرى"، نجد فيه ما لم نتوقف عنده من أبعاد ميتافيزيقية لوجودنا، ونجد فيه ما يكشف النزعة العدمية لوجودنا المادي الضخم، نجد فيه رقة "غنائية"، بينما كانت الاستعارات القاسية للحداثة هي ما يؤسرنا، نجد فيه النبرة الخافتة والصوت الخفيض، كأنها ملامح الروح العميقة: "خافتة وخفيضة الصوت ونابعة من الجرح الأزلي الذي يعانيه الشاعر كائناً وجودياً وإنساناً غريباً في العالم وعنه".
وحيداً أنتمي... الى البرق الذي يكشف وجه الدهر في لحظة...
الى جزء من الانسان في الظلمة مفقود...
كنا نعود إليه مخذولين فنجد عنده وهو "الوحيد" ما يحرض دائماً على مواجهة الأقدار الفجائعية استناداً إلى ذخيرة غنية من الحياة، حتى لكأن من الطبيعي أن نسأل: كيف ونحن من انشغلنا بالمدارات اليومية للعيش والإيقاع المتوتر للحياة أن نجد فيضاً من الحياة عند من انصرف عنها كإيقاع آني إلى البحث عن ينابيعها؟ إنه المعزول، المحتجب، أشبه بالمتواري، ولكنه القادر على تحويل العزلة الفردية إلى "عزلة حقيقية كان البريكان يجاهد من أجل إنمائها وتعميقها، ليبقى شعره منعزلاً ومختلفاً بفعل هذا الجهاد الذي كرس الشاعر من أجله حياة كاملة".
في نصوص البريكان إحاطة معرفية بحطام المصائر البشرية، ولنأخذ نصّ "إنسان المدينة الحجرية" مثلاً:
في العالم المطمور تحت الأرض، في متاه
قد من الحديد والإسمنت والحجر
حيث يمدّ عنكبوت الخوف والضجر
خيوطه في طرق الصمت، ولا مفر..
في لابرنت الموت، حيث يهلك البشر
شوقاً إلى الحياة
حيث يضيع الصوت، حيث يفقد الأثر
أنت هنا تدور
هذا النصّ يحيل إلى معرفة عميقة جعلت من الغموض والعزلة والانسحاب من بوابات الحياة الواسعة وبحسب البريكان، جعلتها عوامل لمراجعة فكرية عميقة وليست عوامل لنسج "جمالية" تعتمد سحر اللغة وفرادة الصورة الشعرية، إنه نصّ يعرف الشاعر ما معنى أن يحيله إلى "متاه" كما في السطر الأول وإلى "لابرنت" أي المتاهة بالانجليزية كما في السطر الخامس، إنه نصّ العزلة التي تحمي العقل، وتنقذ الفكر من آلات السطحية العقلية، وهي تتقدم بجبروت عصري. وفي كلمته "فساد الملح" تأكيد على قوة الفكر وحضوره منقذاً للوجود الإنساني من الانحطاط: "الفكر هو الشجاعة الكاملة والحرية الحقيقية والشرف الأسنى للإنسان، فلا سلطان أعلى من سلطان الفكر، ولا شرعة أثبت من شرعة الحق، ولا قانون أقوى من قانون الإبداع. أما حين تكون الثقافة امتيازاً يدعى، وثرثرة مترفة، وسعياً متصلاً لتسويغ الغرور الشخصي، فإنها ليست سوى مظهر آخر من مظاهر التخلف العام قد يكون أخطرها جميعاً".
وإذا كانت أقرب إلى البداهة فكرة أن من ذوت الحرية في أرواحهم، لا يمكنهم أن يدافعوا عن حريات الآخرين، فإن عودتنا إلى البريكان كانت تأتي من باب قدرته الروحية الجبارة على أن يكون حراً، وبالتالي قدرته على الدفاع عنا.