نقد أدبي  



صلاح النصراوي في رواية تفكك حكم الديكتاتور العراقي

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM


"حافات الأمل": وقائع الرعب العراقية تحت مجهر النقد والمراجعة 

قيل الكثير في وقائع  رعب شهدها العراق في ربع القرن الماضي . وفي حين   تعددت الرؤى والقراءات ، وهي تتعاطى التراجيديا التي طبعت المسار الإنساني لبلاد الجواهري  الا ان قراءة لوقائع الرعب وكما كانت تنتنجها المؤسسة الحاكمة ، لم تكن قد توفرت في شكل روائي ، وان كانت بعض مقترباتها قد تشابكت ضمن نسيج قصص وروايات، كتبها عراقيون كانوا قد خرجوا من بلادهم قبل فترة وجيزة من اندراجها في " مجد" الحروب ، وتحولها الى مناحة فسيحة لنحو ملايين من النساء يبكين القتلى والمفقودين والأسرى والمعتقلين ، والمهاجرين لاحقا.
والوقائع التي تنتظم فيها  واحدة من ابرز مؤسسات الحكم في العراق كالمؤسسة الاعلامية ، بما فيها من تكثيف لملامح الأحادية الفكرية التي تجعل الحياة تعاني اكفهرارا وبرودا قاتلا ، وسطوة الريبة والخوف والمراقبة الأمنية ، وهواجس الخوف من تأويل كلمة او عبارة او صوغ جملة ما ، وحتى عنوان ما ، لم تكن قد انتظمت في بناء روائي ينفتح على " حافات" الرعب الأخرى في مشاهد جففت حياة العراقيين ورمت " آملهم"  الى فراغ سحيق : قتل السجناء والطلب من الأهل التزام الصمت ، وعدم اظهار علامات الحزن . قتل الهاربين من جبهات الحرب، وجعل "الأب الذي قتل ابنه  الهارب" نموذجا يحتذى للأباء الصالحين !وتحويل البلاد شيئا فشيئا الى سجن فسيح . كل هذه الملامح السود لرعب عراقي ماانفك يمسك بالبلاد حد انه على وشك ان يمحقها ، يراجعها تحت مجهر النقد الدقيق ، الكاتب صلاح النصراوي في رواية هي الأولى له بعد رحلة صحافية شائكة في فترة لم يكن يكره الحكم العراقي فيها شيئا قدر كراهيته للرأي المختلف والفكرة التي تنتمي للحقيقة .


حافات الأمل: شيء من وقائع الرعب العراقية
 
ورواية " حافات الأمل " الصادرة عن دار " ميريت " في القاهرة قبل أيام تصور محنة صحافي عراقي ، لم يكن قد اندرج في جوهر الحكم ولا في نهجه السياسي يعمل في صحيفة رسمية ، ليكون شاهدا على مرحلة هي الأعنف في حياة العراق المعاصر ، مرحلة صعود القيادة الحالية الى الحكم وبدء حروبها الداخلية والخارجية . والشاهد هنا لم يتردد من ان يطابق  ملامح شخصيات عمله الأدبي ،  مع ملامح شخصيات في الحكم العراقي عمل معها وخبرها عن قرب.
الرواية انتظمت في بناء واقعي كلاسيكي وان كان مؤلفها النصراوي  استخدم تقنية تعدد الأصوات لرسم مشهد معين .والبناء ذاته انسحب على لغة وصفية  لم تخل من مباشرة وهي تتعاطى مسار الأحداث الواقعية . الحوارات المطولة بين شخصيات الرواية ، انسحبت الى لغة تقريرية كان تأثير الكتابة الصحافية فيها بالغا ، غير ان هذا لم يحرم الرواية من فرادتها لجهة تصديها لكشف الوقائع السود في واحدة من ابرز مؤسسات  الحكم في العراق :  المؤسسة الإعلامية وسطوتها في ثمانينات القرن الماضي.
الرواية ترسم المسار الشخصي والموضوعي للصحافي (حسين القاسمي ) بدءا من مشهد وقوفه الطويل منتظرا في غرفة مديرة مكتب رئيس التحرير ، حاملا القصص والتقارير الإخبارية الواردة للقسم السياسي كي يعرضها على ( ناجح المديني ) الرجل المدلل للسلطة في مؤسستها الإعلامية .
عبر ذلك المشهد نجح المؤلف في رسم ملامح لحياة اقرب للكابوس ، و بث في سطوره ايقاعا مريبا لتلك الحياة : عطر مثير في الغرفة وجاكيت الموظفة الشبقة على مسند الكرسي الفارغ ، وباب  غرفة رئيس التحرير المغلق وصوت ضحكات اقرب للهمهمات المبحوحة ، مكان ينفتح على الوان وعطور فاقعة  ، غير ان ذلك لم يبعد عنه الإيقاع المريب الذي ينفتح على آخره حين يندفع  رئيس التحرير المديني بموجة اخرى من الغضب نحو القاسمي معلقا على صوغ خبر عن لبنان : "الم نقل مئات المرات ، يجب عدم استخدام عبارتي حزب الله وحركة امل عند ورودها في الأخبار عن لبنان ، اليست لدينا توجيهات بان  نستبدل اسماء عملاء ايران هؤلاء كما نفعل مع اسرائيل فنجعلها الكيان الصهيوني ".
القاسمي من جهته يدافع عن صوغ الخبر ، وله في الجانب المهني ذريعة مناسبة ، الا انه يواجه بعبارة نهائية لاترد من المديني :" اعد صياغة الخبر تماما وفق تأشيري ، واضف الى الخبر فقرة ان الأثنين ( حزب الله وحركة امل ) يعملان على تدمير لبنان وتسهيل احتلاله من قبل الإيرانيين ".
باب رئيس التحرير يفتح مرة اخرى ، وخطوات مرتبكة لمدير التحرير تكشف عن فصل آخر من فصول الخراب في الإعلام العراقي  حين لم يلتزم ولي الدين بنص تعليمات الوزير حول ذكرى معاهدة كامب ديفيد وهو يكتب الإفتتاحية : " ما دامت هي تعليمات السيد الوزير فلماذا لم تلتزم بها يا حمار "، والخراب ليس في هذا التعليق " الودي " الذي نزل على مدير التحرير وانما في معلومة تالية ، هي ان ولي الدين لم يكتب الإفتتاحية ، بل هو مجرد كاتب طباعة بالأصل وتمت ترقيته لأسباب أمنية ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‍‍!
الجو الكابوسي هذا ومقترباته الكثيرة ، رسمه الكاتب النصراوي في تفاصيل دقيقة ، جاءت على الأغلب من تجربة شخصية في الصحافة العراقية" بغداد اوبزرفر"  والأجنبية ( مراسل لوكالة اسوشيتيد برس) تواصلت منذ منتصف سبعينات القرن الماضي حتى اواخر  آذار ( مارس )  1991 حين كادت رأسه تطير بعد كتابته قصة اخبارية  لوكالته الأجنبية ، وصف فيها مدينة كربلاء الشيعية التي احكم الحرس الجمهوري السيطرة عليها اثر قمعه انتفاضة اهلها ، بانها مدينة خراب واشباح اشبه ببرلين بعد دخول الحلفاء اليها.
التلاقي بين مسار احداث الرواية والجانب الشخصي في حياة المؤلف ، وجد مبرره في الصفحة الأولى حين وضع النصراوي عبارة برنارد شو : " من يكتب عن نفسه ، وعن عصره ، انما يكتب عن كل الناس ، وعن كل العصور". هكذا امكن ايجاد تطابق واقعي لابين حسين القاسمي والمؤلف النصراوي ، بل ان ناجح المديني ، هو ناجي الحديثي ، رئيس تحرير " بغداد اوبزرفر" سابقا  ووزير الخارجية الآن ، والذي معلوم انه اجتهد في اخفاء مشاعره حين استدعته السلطات  لتخبره باعدام واحد من شقيقيه المسجونين بتهمة " الخائن " وتطلب منه دفنه بهدوء . في الرواية نجد المديني يبوح بالأمر لعشيقته ( مديرة مكتبه )  "انه اخي احمد كنت اعتقد ان سجنه كان عقابا كافيا لجريمة لم يرتكبها ولكنهم لم يكتفوا بذلك وابلغوني انهم اعدموه بعد ان ظهرت ادلة جديدة تدينه . الكلاب كنت اظن ان خدمتي وولائي سيشفعان له ولشاكر وسيمضيان فترة السجن ويطلق سراحهما بعد ذلك .والآن عليّ ان استلم جثته صباح الغد وادفنها في السر مثل زانية توئد نغلها".
المديني بعد نوبة غضبه قرر ان يستدرك امره ليخبر عشيقته " المهم ان احتفظ انا بنقائي واخلاصي للحزب والقيادة "، بعد ان توقع ان تكون الأجهزة وضعت له فخا في بيت عشيقته ( تخون زوجها الضابط بعد ان اقعدته الحرب عاجزا) !
يرأف الكاتب النصراوي بقارئه من هذا الإيقاع الكابوسي ، حين يبرع في رسم ملامح تلك العلاقة العاطفية المبددة بين القاسمي وزميلته في الجامعة سابقا وفي العمل حاليا ، العلاقة التي خفتت بعد ان وضعت جمل مريبة كانت تسمعها خديجة من اهلها  حدا لحماستها عن حسين القاسمي وقوة افكاره وشخصيته في الجامعة ، بعد ان كانت تخبرهم بما تكتشفه في زميلها . المصير الذي انتهت اليه خديجة ( قمعت حبها وتزوجت مبكرا ) لم يمنع من ان تندفع في توجيه نقد عنيف للقاسمي تحت ذريعة ان مواقفه المتصلبة ستذهب به تحت سنابك خيول السلطة التي لاترحم ، وبدا ان الحق الذي منحته خديجة في لوم القاسمي،  كان نار حب ، ايقظ جذوتها  القاسمي ، حين بدا لها كما عرفته صادقا متوحدا مع فكره ، مؤمنا بقيم الخير والعدل والجمال.
وفي الوقت الذي بدت فيه الشخصيات الرجالية في " حافات الأمل " متوترة تنوء تحت اعباء قلق وتشتت وانفصام ، وان كانت اعباء متباينة في القيمة الأخلاقية والفكرية ، الا  ان الشخصيات النسائية جاءت منسجمة حتى في خياراتها الحياتية المريرة : زوجة ولي الدين حين تتحول مخبرة وتدفع ابنتها الجامعية بهدوء ورشاقة الى معاشرة المسؤولين ضمانا لنفوذ و مال ، ومديرة مكتب رئيس التحرير ، لقاء شبلاوي ، صاحبة الذوق المتدني في الثياب والعطور ، لكنها المنسجمة مع نداءات الانتقام في داخلها ، فزوجها الضابط ، ارادته رمزا للسلطة الصاعدة ، لكنه اصبح مقعدا مشلولا ، فلا بد من رمز تسعى اليه حتى وان كان الطريق يعني جسدها ،  تقابلهما خديجة المأسورة بالقيمة الفكرية العليا للإنسان لجهة وفائها وان كان ذلك يتم  باشارات  سرية ، لعلاقتها مع القاسمي.
 

صلاح النصراوي(كاميرا:علي عبد الامير)
 
"حافات الأمل " تأتي في قسمين ، الأول " في ليلة " وفيه مسارات انحطاط بشري ومصائر سود ، والثاني " في نهار" حيث يتوصل القاسمي الى فكرة لطالما كان يجدها مثار تندر واستهجان، ان يخرج من بلاده حفاظا على حياته ومن اجل ان تستمر الفكرة التي مثلها، وان يكون الشاهد على خراب مستديم. ونجح  النصراوي ببراعة في تتبع مسار فكرة الخروج، فجعل القاسمي  الذي عادة ما يسميه اصدقاؤه بالضمير ، وبالنقي يشتبك وبوضوح هذه المرة مع نقيضه السلطوي المخادع ، المديني . هنا ينهي القاسمي قبل ان يعبر حدود الوطن،  حدودا غير مرئية للمواجهة ، ليكشف عن نمط من انماط " المقاومة بالحيلة " تلك التي برع فيها عراقيون ، وعبرها دافعوا عن مساحات لم تتلوث في حياتهم "كنت انجح في استفزازك ، لأني كنت  اكتشف ان كل السلطة التي في يديك لا تستطيع ان تقتل التحدي الذي في داخلي حتى لوعبرّت عنه بنظرة مستخفة كنت تستطيع ان تكشفها في عيني او حتى بمجرد الصمت الذي كنت اشعر انه يغيظك اكثر من الكلام . بل سأصارحك اكثر ، ما دمت سألتني ، كنت انت لعبتي المفضلة التي اجدت ممارستها في قهر الخوف الأكبر ، وتحديك كان سلاحي الذي انتصرت به دائما على محاولات سحقي، وظل يمنحني الصبر والأرادة ويعطيني القوة ويشحن في الأمل والرجاء".

* نشرت في صحيفة " الحياة" 13 آذار 2003
https://bit.ly/2SAX38r




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM