نقد أدبي  



بتول الخضيري في روايتها الثانية (غايب)

علي عبد الأمير

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM


عمارة يوجز اهلها تفكك العراق وانهيار طبقته الوسطى

 

فيما انجزت الروائية العراقية بتول الخضيري روايتها الأولى " كم بدت السماء قريبة" في اجواء  من التوتر الخارجي لجهة الأحداث ، ومن الصفاء الروحي النادر لجهة قدرتها على رسم المكنونات العميقة لشخصيات الرواية ، فانها تتقدم الى روايتها الثانية " غايب" الصادرة حديثا عن " المؤسسة العربية للدراسات والنشر" لتكمل فصلا آخر من فصول التراجيديا العراقية المعاصرة ، فصل " الحصار" وانهيار الطبقة المتوسطة العراقية .

وتبني الخضيري المقيمة في عمّان منذ سنوات روايتها اعتمادا على احداث تقع في عمارة سكنية وسط بغداد ( المكان ذاته شهد ملمحا بارزا في تحولات العراق ، الا وهو سقوط تمثال صدام وسط " ساحة الفردوس " غير ان الخضيري اتمت مخطوطة الرواية الثانية قبل هذا الحدث بنحو عامين) ، وتكشف حكايات سكان العمارة انماطا من السلوك البشري تتعرى معها الشخصية العراقية وتخرج الى حقيقتها المجردة لتكتشف كم هي هشة ومخترقة ومعزولة ومحكومة بسياق من القمع والجهل والتضليل والخوف.
 

غلاف رواية بتول الخضيري الثانية
 

الرواية تحكيها ( دلال) التي وبمشهد سينمائي بارع ترسمه الروائية نعرف انها نجت من حادث سيارة كانت تقل والدتها ووالدها مهندس النفط الذاهب الى وظيفته الجديدة في صحراء سيناء ، وتنتقل للعيش في شقة بشارع السعدون مع خالتها وزوجها غير القادر على الإنجاب ويكنيه الناس كحال المتزوجين العراقيين ممن لااطفال لهم " ابوغايب" .

الغياب هنا دلالة على نهايات غريبة لكنها بدت واقعية جدا في حال البلاد ومجتمعها ، وثمة غياب للأمل ، غياب للحقيقة ، غياب للحياة التي تذوي لا بين سكان العمارة الذين تطحنهم ازمات العيش ومعها تذبل امنياتهم حسب ، بل بين ابناء البلاد كلها.

  " غايب" هو دلالة  ما كان العراقيون ينتظرونه خلال  سنوات الحروب والحصار ، مثلما هو دلالة عن عقم " الطبقة المتوسطة" العراقية حين اكتفت باوهامها عن الملاذ الشخصي وامكان تحقيقه فيما البلاد تسلم نفسها طواعية لمسارات الخراب ( زوج الخالة مثال لافت لشخصية الطبقة المتوسطة العراقية ، فهو موظف كان محترما في السياحة ، له تجارب في الرسم فشلت ليتحول الى صاحب مجموعة بارزة من لوحات التشكيل العراقي ، ومثقف ممتاز في تاريخ العراق على مدى عصور ) .

 في العمارة وحولها ، مهندس تحول قصابا ، ومتعلم آخر تحول حلاق نساء ، واستاذ جامعي آثر العزلة ، وممرضة تتجار بالأعضاء البشرية، غير ان ملمح الصعود لفئة اجتماعية متخلفة كان في شخصية " ام مازن" التي تصنع الحجاب وتفك الألغاز بفنجان القهوة وتحضر بالطب الشعبي وخلطات الأعشاب حلولا للأزمات الإقتصادية والنفسية والغرامية لسكان العمارة وغيرهم، والأمل " غايب" ايضا في حال هذه المرأة ، فهي تبيع خلطة الوهم الى من حاصرتهم الوقائع وباتوا حيال شراستها متهدمين لا يقون على شيء.

في الرواية تضمين كثير لوقائع العراق وبطريقتين  تبدو الأولى  اقرب الى التوثيق وهو ما اضعف النسيج الفني ، فثمة ارقام عن القذائف التي اسقطت على العراق خلال حرب الخليج الثانية 1991 ، وارقام عن ضحايا الحصار من الأطفال والنساء ، ومشهد الضحايا في " ملجأ العامرية" ، وتصاعد التلوث البيئي بعد ضرب المفاعل النووي العراقي ، واعدام عدد من التجار بعد اتهامهم بالتلاعب بسعر الدولار ،واعدام عدد من النساء لممارستهن الدعارة  والثانية التي عالجت فيها الخضيري تحولات االبلاد ووقائعها القاسية ، هي ما كانت ضمن البنية الفنية والحكائية للرواية ، فمشهد سقوط آخر حبيبات " نسكافيه" دلال التي تحب ، يشير الى معنى عدم قدرة عراقيين خبروا مباهج الحياة البسيطة على تعويض ما احبوه ، او مشهد الفتاة وهي تستعيد طعم حلوى " ماكنتوش" عبر وضعها ورق سيلفون ملون اما عينيها يشير الى نكهة الحلوى " المنقرضة" ، او حديث حلاق النساء" زبونة اعترفت لي انها تتخيل ستارة غرفة نومها ، عندما تعبث بها نسمة هواء ، تصدر حفيفا هادئا تتخيل معه حفيف زوجها القادم في ظلمة الغرفة الى فراشها ، مع العلم انه توفي قبل سنوات عديدة"، او حين تصور الكاتبة مشهد العمال ينقلون للبيع قطع آثاث واجهزة في نادي النخبة العراقية  " نادي العلوية " الذي سنجده في فصول الرواية بشهد تحولات غريبة اخرى ، فزوج الخالة يدخل تحديا من نوع خاص فيستأجر قطعة من حديقة النادي ليحولها منحلا عله يخرج من توقف حياته وتقريع زوجته الدائم عن فشله وعدم تمكنه من فهم تحولات المجتمع ، فضلا عن توصيفات لغوية ناجحة لوقائع البلاد " الحصار يخنقنا مثل بطانية صوف في عز الحر".

وفيما تبدو الحرب ونتائجها فعلا ذكوريا ، بدت صورها في عين الفتاة قراءة غير معتادة ، قراءة انثوية رصدت الخفي والمدفون في النفوس والمخبوء في الظواهر والأمكنة ، وفيها تصنع النساء الحدث بل هن يرممن " غياب " الرجال المشغولين بالموت ، وما حققته الخضيري في هذا الجانب  لم يكن متداولا الا في حدود على الرغم مما كتب من " ادب الحرب " و" مراثي الحصار" في العراق ، بل ان صاحبة " كم بدت السماء قريبة" زادت على ذلك بان خلقت فعلا انثويا حيا جاء معادلا لموت كثير ، فثمة اشراقات روح وجسد نجدها في تحولات مصائر الناس في الرواية ( علاقة دلال بعادل وزوج خالها بصديقته الأردنية) تقابل ميتات جاءت في الرواية غير طبيعية كأن لاموت طبيعيا في العراق .

السينما تشتغل كثيرا في نسق رواية " غايب" وبتصوير حفلت بتفاصيل غنية ومكثفة في آن نقرأ مشهدا تمارس فيه ( دلال) الحب مع ( عادل) ، فهما لوحدهما في شقة ( ام مازن) وعلى فراش من اعشاب معطرة ، وبالوان ساحرة يكتشفان لذة الجسد " قبل ان يمدنني على مساحة من لاوندا ، راح يزيل الصبار ووردات الشوك عن الأرضية، تعلقت حشيشة ام المئة ثقب بشعري ، ضحك عادل لمنظري وقد التصقت  مساحيق برتقالية على جانب من خدي . دفعته بكل قوتي فهبط هو في عشبة راوند صيني واخضرت رقبته. رفعت غصنا من شجرة الأرز في وجهه وراحت بشرته تصدر رائحة زيزفون مع عرقه. دسنا سجادة الأعشاب تحتنا".

في الرواية تبدو القسوة في حياة العراقيين هي واقعهم ، بينما احلامهم هي اوهام ستبددها القسوة بامتياز : الى جانب المنحل تنصب خيمة يحرسها جندي تكتشف فيها دلال مجموعة من الجثث التي يحملها زوج الخالة مسؤولية هياج النحل وعراكه وموته لاحق ، قذيفة تخترق شقة صاحبة خلطات السحر والأعشاب ، و (عادل ) الماهر في الحب وصاحب الأصابع الرقيقة في عناق الجسد " اصابعه مثل بامياء طرية ، تجد طريقها الى اسفل " هو ضابط امن مهمته مراقبة سكان العمارة مستخدما حلاق النساء عينا له ، ويستخدم ( دلال) ممرا الى القبض على زوج خالتها  بعد فشله في تربية النحل بتهمة تهريب الموروث العراقي حين  قرر بيع ثروته من اللوحات في الأردن بمساعدة صديقته في البلد المجاور ، والصديقة الأقرب ( الهام) تنتهي سجينة بعد اتهامها بالمتاجرة بالأعضاء البشرية.

وحيال مشاهد كهذه تبدو الطبقة المتوسطة العراقية وهي تتفكك وتضمحل لصالح القسوة والتخلف غير ان الروائية كانت ترسم مقابل مشهد الهدم والتفكك هذا ، مشهدا للبناء كما في تفاصيل بدت مبالغ بها عن النحل وخلاياه وامراضه وطبائعها غير انها كانت تفاصيل عن بناء حتى وان كان افتراضيا في حياة جلها يمضي الى هدم.

بتول الخضيري في روايتها " غايب" لم تتوقف بحذر وترقب عند بداية كبيرة شكلتها روايتها الأولى " كم بدت السماء قريبة" فخاضت غمار كتابة رواية جديدة تساءل كثيرون عنها ، فجاءت جزءا ثانيا ،اعتمد وسيلة فنية اساسية هي الحوار اكثر من اعتماده السرد كما في الرواية الأولى ، من تراجيديا عرق صدام حسين ، وهو مايعني ان على الخضيري ان تكمل ما بدأته فتكتب رواية ثالثة كي تصل الى مشهد مابعد سقوط التمثال الذي كان منتصبا في الساحة التي تطل عليها شقة روت من خلالها الروائية فصولا من تفكك الطبقة المتوسطة العراقية وهزيمتها.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM