محمد خضير في "رؤيا خريف":
مصائر متجهة الى المستقبل لكنها موشومة برعب الراهن
يختار القاص محمد خضير طريقة اخرى،بل تكاد تختلف عن التي يفضلها، فهو يبعث بإشارته الاتصالية مع الراهن المحلي والانساني، اي كتابه ، من مكان يبدو قصيا في بعده عنه، هو الذي عرف عنه مثابرته وتأكيده على فكرة"المواطن الابدي"، وحرصه على الانتظام في حياة مدينته: البصرة، دافعا بفكرة الانتماء المكاني من ملاحظات واقعية الى اخرى إسطورية نجدها حتى في التسمية لتصبح"بصرياثا".
محمد خضير: فن تحويل الوقائع الى رؤى في فضاء الحكمة
قصص محمد خضير الجديدة تضمنها كتاب صدر في عمّان عن دار "أزمنة" وبرعاية "مؤسسة عبد الحميد شومان"، كتاب عن مكان ومصائر وعوالم تنقذف من الماضي الى الراهن، ومن الماضي احيانا الى المستقبل، وغالبا ما يتم عبر احداث القطيعة مع الراهن الذي احال المكان الى علامات رعب حيث الحرب ونتائجها: "فالمدينة ذاتها تغص بالحشود الوافدة اليها من المدن الاخرى، جنودا وصحفيين ومراسلين ورجالا يقتفون آثار ابنائهم المتوجهين الى الجبهة"، بل ان الكاتب يذهب الى اكثر من هذا في الوضوح، ودائما عن تأثيرات الحرب فيشير في مدخل كتابه "وهل من موضوع، كالحرب يتقدم بالمجال على الممكن ويسوغ السطوع الرمزي مآلا للحقيقة المقيدة، ويسبق المطلق المجرد فيه الملموس المقرب؟ أوَ ليست الفواجع جهة للفراديس؟ فالمدن المحاصرة تلفظ أهليها، وتزحف الى الصحراء، تستجير بزمانها وترحل الى مبتداها، والكتابة تنحرف عن سكتها وتطارد اشارتها معناها، والمخيلة منكسرة والمؤلف طريد، وحيد، محاصر، حيران، غريب".
البصرة ..حيث محمد خضير مواطنها الابدي
القصص هنا في مجموعة "رؤيا خريف" تتحدث عن الوقائع بوصفها رؤى، هناك دائما رؤى، متصلة باحداث، وهذه الرؤى واشاراتها الواقعية تبدو وكأنها تخفق بجناح الفن وترحل الى آفاق خلاقة في الوقت ذاته، تأخذ من الواقع بؤرا تشغل تلك الرؤى وتدفع بها الشخوص، الافكار، والنسيج كله يبدو في القصص وكأنه يطلع من ميثولوجيا المكان، ثم تمضي الحكاية وبكل تفاصيلها: (جيكور)، ( ساحة ام البروم )، ( الانهار الكثيرة تخترق جسد المدينة )، ( جندي جريح وشاعر في الحرب )،( حانة الوردة البيضاء ) ثم ( فندق الحكماء الثلاثة )، المكان الذي نجده وقد اصبح ملتقى للمصائر هذه، والاشخاص الذين ينقذفون الى المكان لتفحص علاماته المتناثرة، ويصبح بالامكان التعرف على عبارة – رؤيا ( شمس ) : "لتشرق شمسي على ارض الجنوب، وليمتد قوس قزحي على البحر بوابة تعبر منه سفن العالم "، أو تلك العبارة التي يقولها ( سن ) المنير والتي تكثّف عبر اختيار الكاتب لها، فكرة توقه للعبور من الراهن صوب أوقات أقل رعبا واحتمالات اكثر للتطور الطبيعي وزيادة الفاعلية الانسانية :"لينقشع الغبار، وليتوقف المطر الدموي ولتتدفق السيول الغزيرة، فتغسل الارض من الدماء والجثث وتجرف بقايا الاسلحة المحطمة وليظهر السهل الاخضر يشقه نهر الحياة جاريا نحو البحر البعيد. تأخذنا هذه الاحالات الى نوع من التشكيل المعرفي العميق الذي يصبه محمد خضير في قصصه، انه يأخذنا الى نوع من المكابدة التي لولاها ما جاءت فكرته في القصة بهذه الدرجة من الاقناع، فهو ببراعة ودقة علمية يرسم لنا برجا في قصة"رؤيا البرج"، هو حاذق فيها كمهندس مجدد ولولا براعته في البناء لما كان مقنعا في رسم تلك المتاهات التي ينتظم فيها البرج كرؤيا واسرار، كذلك الحال في قصة "حكايات يوسف"المبنية على جوهرإنساني واقعي بسيط يبدو مشعا وسط تلك الدهاليز والاسرار التي يحتويها مبنى جديد تشكل"عندما اعدنا بناء المدينة بعد الحرب"، بينما في قصة"داما، دامي، دامو" نجد تلك القدرة على تحويل اللعبة الشائعة الى تراتب ذهني وفكري وقراءة عميقة لتصادم الافكار واحالاتها المستقبلية،انها تتطلب معرفة بقوانين اللعبة وجاءت هنا مزدوجة، اللعبة الحقيقية ولعبة الكتابة أيضا التي ترّق هنا عند محمد خضير الى وصف كهذا :"لعبة الداما، سيدي، لعبة الاعمار القصيرة، سأبرهن أمامك على امتداد المسافة في حدود الرقعة، وكيف ان معبرنا لا يساوي مسعانا، وان أزماننا اطول من أعمارنا". ومثلما اشرنا الى قدرة التشكيل الفائقة للمعارف والافكار في قصص محمد خضير المنوه عنها، نجدها تتكثف في قصة "أطياف الغسق"، فهو يحدثنا بوصف العارف والمدقق لمفاهيم الفيزياء الحديثة – البصريات بخاصة – كذلك برامج وتقنيات الحاسبات وقدرتها على اختزال المعلومات وتنظيمها، فهو يأخذنا الى مزاوجة بين هذا العالم التقني – إذ يتحقق في مدينته المتخيلة – وبين عوالم "فطرية" تتمثل في وجود الحفيد الرابع للنحات الفطري العراقي منعم فرات !! وينشغل هذا الحفيد بمهمة تشكيل أطياف الغسق، عبر المعاونة التقنية في تجسيد رمز حي ومؤثر للمدينة يقام على أطرافها. في متن النص القصصي نجد كشفا لواحد من المعالم العراقية، إذ نقرأ هنا في روح وخيالات وسيرة منعم فرات، ونقرأ في ترانيم وقته الذي انفصل عنه ثم ذهب ليعبر عنه بما فيه من فيض روح شكلت الطيف بصورة مفارقة للتقليدي والشعبي. خروج المدينة من رعبها، ثيمة أثيرة في أدب محمد خضير، وهي تكتمل مع توالي النصوص في كتابه الجديد، ففي قصة "صحيفة التساؤلات" وهي آخر قصة في الكتاب نقرأ:"اكتمل بناء المدينة وحق لها ان ترتبط بإسم تعرف به بين المدن المحيطة التي تفتتت وحالت الى خرائب وتلال واعرة مائلة"، ومع هذا البناء ثمة المرقاب، مثلما ورد البرج ايضا هناك طابعة المرقاب ، ومثلها وردت مفاتيح الحاسوب في قصة اخرى، وثيمة الشاشة وغيرها من اشارات تعكس توقا الى مستقبل سيأتي، لكنه ليس ببداهة التطلع البسيط هذا، بل ثمة تساؤلات دائمة فيه من تصادم الافكار ما يقلق البديهي ويجعله أشبه بلغز ذهني وممر الى اكتشاف المعرفة، وهذه تجتمع في كتاب فريد حمل عنوان "كتاب التساؤلات" ويحفظ في "دار المحفوظات" الذي تفتخر به المدينة.
دأب قل نظيره، نجده عند صاحب "في درجة 45 مئوي" وضمن منحى في القص، يشكل ابتعادا كليا عن الصياغات النمطية،لا افق جمعيا في مسارات انسان القصص الجديدة، مثلما لا اثر "واقعيا" بالمعنى الحرفي المباشر، لكن ان حضرت اجواء الخيال العلمي وغيرها من اساليب استحضار الفانتازيا كتابيا، فهي تحضر بدأب محمد خضير الشخصي وصبره ، وهما عنصران ينبثقان من مكابدات هي متولدة من التنقيب في مكان حميم لكنه تهدم لفرط ما اقترف بحقه من صياغات كابوسية أدت الى عزله اولا ثم برمجته في عمليات هدم منظمة لاحقا. حيال الكابوس المطلق هذا وهو بصري وعراقي بامتياز تأتي قصص "رؤيا خريف" عرفانا بقيمة مصائر انسانية تحلق نحو المستقبل لكنها موشومة برعب الراهن. *نشرت في مجلة"نزوى" الادبية العمانية وصحيفة "الزمان" الصادرة في لندن..1996 |