ببساطة شديدة مات في الحلة قبل أيام الناقد عبد الجبار عباس
علي عبد الأمير
-1- عبد الجبار عباس بدا جَزعاً تلك الجمعة وإستوحشه البرد كثيراً ... فلطالما كان يتحسس من البرد (مَن ينسى معطفه الشتوي), يخاف الوحدة فيستعجل الألفة ودفء المعشر وحديث المحبة وشجن آخر الليل حين ترتعش الخطى عائدة صوب مدارها المغلق, هذه المرة قرر أن يبحث عن ملجأ دافيء أكثر مما عرف وإشتهى ... فذهب الى أغطية التراب ونام هناك, تخلصاً وإلى الأبد من برد كان يؤذيه كثيراً. -2- هو ناقد إنطباعي ... ظل مخلصاً لهذه الصفة في الوقت الذي أصبح التخلي عنها سمة عبور إلى الحداثة ... والإنطباعية, رصينة وأكاديمية و (مضبطة) كما كان يصفها, وفي تأثيرها المنهجي كتب (السيّاب), (مرايا على الطريق), (مرايا جديدة), المرايا في كتبه أكثر من عنونة, هي المرايا الصقيلة في روحه, المرايا العاكسة للإبداع الحقيقي, المرايا المبتهجة لملامح الجمال, والضيقة, الضيقة إزاء قوة القبح ... هكذا كانت (إنطباعيته) الشخصية والمؤثرة.
عبد الجبار عباس شاعرا
-3- قرأ لنا أكثر من مرة قصيدته في رثاء جاسم الزبيدي والتي نشرتها (الثورة), كان يهزأ فيها من الموت الذي إستطاع أن يجندل مُحباً للحياة مثل (جاسم الزبيدي), كان يطوح بيديه وتحتقن وجنتاه ... ها هو الموت يأخذ مُحباً أخراً للحياة وسيجد عبد الجبار عباس مَن سيكتب في رثائه قصيدة ويطوح بيديه هازئاً من الموت الذي سيلتقيه هو الآخر !! -4- عبد الجبار عباس المراقب عن بعد لمكامن الأصالة في الكتابة الأدبية وبكل فنونها, كان، لا يتردد في تسمية أي نَص بوصف يستحقه حتى وإن لم يطرق سمعه إسم صاحب النَص, فعرفنا له قراءاته النقدية لأسماء شابة في الشعر والقصة فيما تجاهل مَن يستحق ذلك وإن ضجّت بإسمه الأمكنة الثقافية والمؤسسات.
من اعمال الراحل عبد الجبار عباس
-5- حكايات الرجل كانت فصولاً من علاقته بكل ما هو حي, عينه على إيقاع الشارع فيما رؤاه تمضي عميقاً تبحث عن معنى يأخذك بسرد حكاياته حتى الصغيرة منها, فهو يصف المشهد بطريقة تدخلك حتى في التفاصيل, فيتحول كل شيء الى طراوة عجيبة, ولأنه هكذا, خزين تجربة حياتية صادقة تعجب لهذا الزهد في كل شيء يأتيه ... نزعاته حتى في أقصى فرديتها تظل أسيرة المشهد المعقول لصورة إستطاع بجهد حقيقي أن يرسمها لنفسه ... من (حكاية) له كان يرويها قبل أشهر عن ناقد (قردوي) عُرف بجهله المتضخم وقدرته على البروز مع هذه الصفة, عرفت ومَن كان معي قريباً منه, ان هذا الرجل الصادق سيبتعد عنا قريباً. -6- عبد الجبار ... إبن مدينة متدفقة ... إبن (الحلة) الحقيقي ... أهذه ملامحه أم حارات المدينة القديمة؟ أهذه جبهته أم ضفة النهر ومقاهيها التي كانت مسرح أحداث وأفكار؟ أهذه حكاياته أم مشهد المدينة العام وتفصيلاته الحية؟ أهذه أحلامه, إنطباعاته وحنينه الذي لا يهدأ الى وقت يريده شخصياً بينه وبين الموسيقى أم تطلعات المدينة الى غد قريب من ملامحها ولكنه ينفتح على أفق أكثر إتساعاً؟. لك التحية أيها الصادق عبد الجبار عباس ... هل نال جسدك ما يكفيه من الدفء الآن؟ هل إرتحت لأغطية التراب؟ ... هل إنتهى جزعك من البرد وتحسبك الشديد منه؟ ... نَم قانعاً بالدفء ولنا أن نتحسس البرد وغيابك.
*مقالة نشرت في "القادسية" الإثنين 21 كانون الأول 1992
|