مقالات  



حين كان عراقيون يقدمون روايات الطاهر وطّار هدايا لحبيباتهم

تاريخ النشر       22/08/2010 06:00 AM


علي عبد الأمير
 
كانت كتب الروائي الراحل الطاهر وطّار: "الزلزال"، "اللاز" و " الشهداء يعودون هذا الأسبوع" اشبه بتعويذة حب تتفتح في ايدي شبان عراقيين ممن لفحتهم رياح اليسارية الفكرية والثقافية. كانت تبدو، وهم يحملونها بين كتبهم الدراسية او يودعونها هدايا في حقائب حبيباتهم وصديقاتهم، عطرا ولهفة واشواقا، مثلما كان الوقت (منتصف سبعينيات القرن الماضي) يتفتح قداحا في أشجار البرتقال والليمون والنارنج في بيوت بغداد.
كثيرا ما شهقوا فزعا مع "اللاز" رواية الالام التي تورثها تلك "الثورات التحررية" التي ما تلبث ان تتحول قوة غاشمة لا تجيد غير سحق محبيها، ثم تمعنوا في صور عميقة الملامح للبيئة الجزائرية مكانا وانسانا كما نقلتها روايته "الزلزال"، ملامح لم يكونوا قد عرفوها من قبل بلغة ادبية عربية تداعب هاجسا كانا يؤثر فيهم تلك الايام: هاجس التحولات " التقدمية" وهو يأتي هذه المرة من ارض ارتبطت بفكرة "النضال"، مثلما كان يأتي محمولا على جناح من حكايات الحب التي تجمع بين من كانوا يجدون حريتهم عشقا وحبا وهي تغتني وتتعمق مع حرية شعوبهم.
وفي مجموعته القصصية التي اصدرتها وزارة الاعلام العراقية العام 1975"الشهداء يعودون هذا الاسبوع"، كان الهاجس ذاته حاضرا، ولكن بشيء من المواجهة العميقة مع الذات، وهي تكتشف انهيار القيم "الكبرى" شيئا فشيئا فتتحول الافكار و"المبادىء" المطلقة في انسانيتها الى حاضنة لانواع متتالية من التسلط والغطرسة ووأد الاحلام تاليا، فـ"الشهداء" لن يكونوا الا وسائل رخيصة يستخدمها المنتفعون للوصول الى مستقبل آمن.
كانت تلك اشارات نذير لم يدركها القراء الشبان العراقيون الملفوحون بهواء "اليسارية" و"التقدمية"، الا انهم وبعد ان صحوا من نشوة ان تكون روايات وطّار وكتاب وشعراء كثر، رسائل محبة راقية الى صديقاتهم وحبيباتهم، كانت ماكينة القمع البعثية في العام 1979 قد تمكنت منهم حد انهم بالكاد وجدوا الفرصة ممكنة كي يتخلصوا من بعض كتبهم التي قد تصبح دالة على انتمائهم السياسي والفكري.   
كانت روايات الطاهر وطّار الذي رحل قبل أيام،  قرينة مثيلاتها عند شبان بغداد اليساريين منتصف سبعينيات القرن الماضي، خذ رواية "جميلة" للراحل جنكيز ايتماتوف، تلك الرواية التي كانت تستحق وصف شاعر فرنسا الرقيق آراغون حين قال عنها بعد ان نقلها الى الفرنسية بانها "اعظم قصة حب في العالم" .
كانت روايتا " اللاز" و" الزلزال" للطاهر وطار تجمعان من حولهما قلوبا تهفو واذهانا تتطلع وأرواحا تتفتح، حتى بدا مؤلفهما صديقا أنيسا حمل حكايات مدن الجزائر الغريبة في بيئتها الجغرافية والانسانية على العراقيين وعوالمها المدهشة ليصبح واحدا ممن افتتنوا بالكتاب والفكرة والجمال، فاختلطت ملامحه بصورة عراقيين أحبوا فيه نزعته الانسانية وإعلائه المشاعر فوق كل إعتبار، بل حتى فوق الانتماء الفكري والتوافق الكلي مع فكر الدولة الوطنية و"الثورية.
ان وطّار  لفرط  ما  أحبه عراقيون وعاشوا عوالمه، بدا وكأنه صار واحدا منهم، فكيف لا وكتبه "هدايا" أشواقهم الى صديقاتهم، ومصائر أبطاله كانت محاور  نقاشات تمتد الى جلساتهم التي تتسع لتضم حالمين من كليات ومعاهد عليا، فكم كان هناك طلبة رغم دراستهم العلمية الصارمة الا انهم كانوا يقابلون اشتراطاتها بان يدعونها جانبا وهم المأخذون كثيرا بالادب والفنون. وتنفتح تلك الجلسات على صخب حيوي يبدأ من آراء في الأدب والسياسة ولا ينتهي برقة تثيرها حكايات النساء وما تستدعيه من أغنيات، غالبا ما كانت فيروز نجمتها اللامعة بقوة.

الطاهر وطّار: رفعته أيام الرفعة الروحية العراقية الى مصاف الكتاب الكبار

جلسات وحوارات وكتب ومعارف واحلام مفتوحة على المحبة والثقة بالغد، فيها من الأشواق ما يأخذ النفوس الى عوالم قصية، لكنها بقوة الحلم والمعرفة كانت تبدو ممكنة وقريبة جدا. لن تنسى أمسيات نادرة في المركز الثقافي السوفياتي واسابيع الافلام المدهشة: خذ فيلم " الحرية تلك الكلمة الحلوة" مثلا، خذ فيلم اندريه فايدا في اسبوع الفيلم البولوني، و دائما لاتنس سحر الكتاب.
هل يمكن اليوم رغم فرط الرمل والغبار اللذين علقا بارواح من كانت عوالم الطاهر وطّار لهم، ممرات معرفة وجمال، ان ينسوا  عطر القداح المنبثق من حدائق البيوت وهم يقضون ساعات طويلة في رفقة كتب ودواوين؟ هل يمكنهم نسيان المواعيد النسائية الاولى وضجيج الفتيات الجميلات في ممرات معرض للكتاب او عرض سينمائي لافت؟ ثم وقبل كل هذا هل يمكن نسيان ذلك الشعور العميق بالجدوى؟ حيث التطلع الى الحرية منسجم بقوة مع تدفق لا ينتهي من المعرفة، وحيث الاخلاص للعلم والفكر ولكن في اطار من الانفتاح الاجتماعي والثقة في النفس، والميل الى التجديد.
اليوم مع رحيل صاحب "الزلزال" و"اللاز" 
(2010)، يكون اصدقاؤه العراقيون الذين فتنهم بحلمه "الثوري" ولكنه القلق لفرط "انسانيته" قد توزعوا خيبات لم يكونوا عرفوا انها مضمرة في مصائر انتهى اليه ابطال اعماله ! 
 


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM