نقد أدبي  



عبد الستار ناصر يعبر الاطلسي مهاجرا: مالذي يفعله أديب المكان البغدادي في تورنتو؟

تاريخ النشر       13/08/2011 06:00 AM


عمّان- علي عبد الامير
مع انه يحاول مغالبة ضعفه الجسدي في قوله بصوت مرتفع: "ما أبغيه من رحيلي هذا هو استعادة صحتي، واستعادة قدرتي على القراة والكتابة"، الا ان القاص والروائي العراقي عبد الستار ناصر يقرّ بان لا ضمانة معينة ستجعل من هجرته الى مدينة تورنتو الكندية نقطة اصلاح لسيرة من الاخطاء السياسية والفكرية والشخصية ميزت حياته التي بدأت في احدى البيئات البغدادية الشعبية(محلة الطاطران)، ودفعته الى صعود سريع في مجال الكتابة القصصية رغم تواضع تحصيله العلمي والدراسي، فهو  من كتب عنه مبكرا الراحل غسان كنفاني منوها باسلوبه في كتابة القصة القصيرة، وصادف هذا الصعود ان تزامن مع أزمة قصته "سيدنا الخليفة" التي وضعته بمواجهة الماكينة القمعية للنظام البعثي اوائل سبعينيات القرن الماضي، ودفعت به الى زنزانة انفرادية قضى فيها عاما كاملا كان سيستمر اياما طويلة لولا حملة تضامن قوية ومطالبة بحريته كانت بيروت منطلقها ومركزها الفاعل.


عبد الستار ناصر العام 2000: كاميرا علي عبد الامير عجام
 
وصاحب  كتاب "صندوق الاخطاء" يقر بانه كان على "خطأ" حين كتب قصصا وروايات بدت تمجيدا للحرب التي شنها النظام العراقي السابق على ايران، مثلما يؤكد بانه عمل على "تصحيح" خطأه ذاك بان خرج الى عمّان اواخر تسعينيات القرن الماضي ليكتب روايات وقصصا ومقالات تكشف "الجوهر القمعي والعدواني" لنظام الرئيس السابق صدام حسين.
ومثلما كان عبد الستار ناصر يدافع عن صدام حسين (مع انه لم يكن بعثيا) في مقالات تتحول لقاءات شخصية مع الرئيس السابق وهدايا مادية قبل ان يتحول الى معارضته، يدافع صاحب "لا تسرق الوردة رجاء" عن رئيس الوزراء العراقي الحالي نوري المالكي، مع انه لايدافع صراحة عن "التغيير" في العراق الذي حمله الغزو الاميركي العام 2003 وكان يرفض العودة الى بغداد كي لايبدو ذلك "تأييدا للنظام الجديد"، وحين تتساءل عن هذه المفارقة تجد من يجيبك: ان رئيس الوزراء العراقي منح عبد الستار ناصر عشرة آلاف دينار اردني اعانته على الخروج من ازمته الصحية الخطيرة التي اصابته العام الماضي وكادت فيها جلطة دماغية ان تسكت نبض الحياة فيه، مع انها تركت الى الآن اثارها القاسية في عدم قدرته على تحريك يده اليمنى وهو ما اعاق كتابته ومتعته الشخصية في حمله كتابا محببا يقضي وقتا نافعا في قراءته.


عبد الستار ناصر العام 2002: كاميرا علي عبد الامير عجام
 
وفي كتابه "الهجرة نحو الأمس"  الذي يمزج بين السيرة الشخصية وشكل النص الادبي المفتوح يواصل ناصر سيرة "الاخطاء" ابتداء من ولادته "ولدت في محلة ازدحمت بالزنا السرّي" ثم تفاصيل حياته المبددة بين زيجات لم يكن يعرف كيف تبدأ وكيف تنتهي (بينهما زيجتان مع كاتبتي قصة عراقيتين: بثينة الناصري وحاليا هدية حسين)، وفصول مغامراته في نوادي القمار وخسائره المتلاحقة فيها.
سيرة الخسائر يستعيدها ناصر مثلما يستعيد سيرة الاخطاء في كتب كثيرة منذ ان استقر في عمّان "منذ الثالث والعشرين من تشرين الاول ( أكتوبر) 1999 حتى الثالث والعشرين من شباط ( فبراير) 2007 نشرت عشرين كتابا في الرواية والقصة القصيرة والنقد والمسرح" وطاول عبرها مشاعر الانكسار ووحشة العزلة والاثر الثقيل للذكريات "الذكريات ستقتلني في يوم ما، الذكريات مؤامرة كبرى، أنا واحد من ضحاياها"،  واعتمدت باغلبها على شحنات كبيرة من الجرأة التي تبلغ حد الفضائحية أحيانا كما في روايته "على فراش الموز"، ومن هنا حاول التخفيف من الاثر "الفضائحي" عبر اشاراته التوضيحية  في ان ما تضمنته الرواية ليس بالضرورة قد عاشه شخصيا، مع انه حقا كان مثل بطل الرواية " يقفز من حانةٍ إلى حانة، ومن عاشقة إلى معشوقة، من بحر إلى بحر ومن بلد إلى بلد أبعد" وانه (عبد الستار ناصر) كان صديقا لشخصيات حقيقية وردت في الرواية مثل الشاعر فوزي كريم والقاص والروائي الراحل محمود جنداري والناقد الراحل محسن إطيمش.

ناصر: شرب كؤوس السعادة و..المرارة أيضا(كاميرا علي عبد الامير عجام)
وعبد الستار ناصر الذي كتب عن بلاده في قصته "سيدنا الخليفة" المثيرة للجدل" يا بلادي: يا بلاد الذين يموتون سراً، أودعك الآن، فقد أمر الخليفة –سيدنا جميعاً- أن أكون الفدية لكل أسرى الحرب الأهلية التي فشلنا بها. وقد وقعت موافقاً وأنا بكل قواي الجسدية والعقلية، أقلّها يا بلادي أموت وحدي علناً، لتفخر بي حبيبتي كلما احتفلت بعيد ميلادي" لايستبعد ان تزداد حياته في كندا (هاجر اليها الاسبوع الماضي) كآبة وغربة، بل يعترف بصعوبة ان يكون هناك "وسط مجتمع غريب وثقافة غريبة"، لكنه يصرّ على أمل استعادته قدرة جسدية تترجم حركة في يده يستعيد معها الكتابة وبالتالي قدرة استعادة ما لم يوثقه بعد من سيرة "الاخطاء" و"الخسارات" في حياته المرتبكة وان كانت رفعته الى مرتبة متقدمة في القصة والرواية العراقيتين، علّه بذلك يحقق ما فيه من نداءات مجروحة الى بلاده "في بلدي نحتاج الى أن نصرخ على عشرات السنين التي ذهبت سدى ، أن نصرخ وربما أن نبكي على خسائرنا التي لا حدود لها".


عبد الستار ناصر- عمّان 2009(كاميرا علي عبد الأمير عجام)

ناصر (63 عاما) الذي يعد نفسه" أخطر قاص في العالم العربي حيث ان من يعاني عذاب السجن بسبب قصة فلن يعود الى كتابة القصة مثل ما فعلت وواصلت " وعرف بوسامة ربطت بين كتبه الاكثر انتشارا في عراق الثمانينات "أوراق امرأة عاشقة"، "أوراق رجل عاشق"، و"اوراق رجل مات حياً" حد انه يفخر احيانا بلقب "كاتب الحب والعشق والجنس والمرأة"، ما انفك يرى ان القصة القصيرة فن كتابي سردي قادر على الاحاطة بالنفس البشرية في صعودها وتقهقرها على الرغم من الحضور الطاغي للرواية، وعلى الرغم من انه كتب روايات كثيرة الا ان حنينا خاصا مايزال يأخذه الى القصة القصيرة مجالا كتابيا برز فيه بامتياز، ومن هنا جاءت مجموعته الاخيرة "نخب النهايات السعيدة" وفيها تأكيد على صورته الاثيرة ككاتب قصة قصيرة: "أنا كاتب قصة ، لم أزل أنظر إلى الرواية على أنها حفنة قصص وحكايات ، أو كما يقال عن الأسد بأنه مجموعة خراف مأكولة ، لكنني ، مع الرواية ، أفترس الجمل الثقيلة ، وأجعل منها مفردات ناعمة وأنيقة ، وما زلت على يقين أن الكتابة تحتاج إلى ذاكرة ثاقبة عندما نكتب الرواية ، وتحتاج إلى ذاكرة حساسة حينما نكتب القصة القصيرة".
 
ناصر 2010: قبيل رحلته الكندية بيوم (كاميرا علي عبد الأمير عجام)

اليوم وإذ يبدأ عبد الستار ناصر هجرته عبر الاطلسي ليقيم في كندا آملا خيرا، يبدو مترددا من مواجهة سؤال " كيف بي سأكتب وأنا خارج بيتي في بغداد"؟ لكنه كان السؤال ذاته الذي واجهه حين قرر الاقامة في عمّان، غير انه كان حينذاك بقلب فتي وآمال برحلة لتصحيح "الاخطاء" فيما يبدو اليوم اسير الشجن العميق وهو يمضي الى مكان غريب عله يمنحه الفرصة لنسيان مكانه الاول  التي منحه مجد الكتابة لكن اورثه جسدا مفخخا بالجلطات القلبية والدماغية.
 
عبد الستار ناصر وعلي عبد الأمير عجام- عمّان شتاء 2002
 


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM