إلى حدود النار

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       14/09/2012 06:00 AM


علي عبد الأمير

كانت لحظةً شديدة الحرج، حين كانت المدينةُ تتسلى بالنظر إلى الكارثة، نظرةَ السارقِ المتيقّنِ من المكان الأمين لما خبأته يداه، وفي قناعةٍ مؤكدةٍ إن لا أحد سيسميه سارقاً. لحظةً ستختصرُ مصيرَ البلاد وتوصلها إنحطاطاً تلو الآخر، كالذي عناه إن الجنودَ في طريق هزيمتهم العام 1991 تركوا آلاف الجثث لزملائهم مرميةً على قارعة الطريق، لحظةً كانت المدينةُ فيها تتحول من فتاةٍ جميلةٍ تزداد رقّةً وعذوبة إلى إمرأة مبتذلة، فلا جفنها رفّ من رحيلٍ كئيب لأجمل بنيها، مثلما لم ترتبك حين عبرت الشاحنات نهر دجلة أول الفجر، محمّلةً بآلاف إنتزعوا من بيوتهم التي لم تشفع  لهم رائحتها العتيقة واعتبروا "غرباء" و "رتلاً خامساً"، وسيقوا إلى حدود ستلتهب بعد أشهر وتصير جهنم ماتزال حتى اليوم تقذف قتلى منسيين أو تشهد عبور أسرى من اليأس إلى اليأس. مدينةٌ نزعت جمالها وأخرجت لسانها لمرعوبين: لشيوعيين وشيعة و"تبعية" وبعثيين هم "الأقارب حتى الدرجة الرابعة لأربعين قيادياً" قالوا لا لرفيقهم الدمويّ الصاعد بقوة إلى الرئاسة.

دمٌ نافس النهرَ في تدفقه، والمدينة تلهو بالورد الخدران على فخذيها،  يرميه "فارسُ الأمة " تاركاً حلوته، تتلوى نشوانة دون أن يخرّب صمتها الرخيم،  صوتٌ نشاز لعازفين خرجوا على أوركسترا منضبطة،  تختلس الأنفاس خلسة كي لا تخدش هدوء المايسترو المبتعد إلى كرسي في الشرفة دافعاً بحذائه نحو إلى أفق دجلة المتطلع نحو ضفته اليسرى في بغداد عجباً من رؤية جنود يبنون سياجاً حديدياً بينه وبين كركرات أطفال المتنزهين عصراً و آلاف الندامى السكرانين ليلاً  في شارع "أبو نؤاس"، الذي سيتحول جثةً طويلةً بعد أن هجره المتنزهون، وأوصدت حاناته الأكثر من مئة، أبوابها، إنسجاما مع " الحملة الإيمانية "،  ونكاية باسم الشاعر "الفارسي" الأصول.

في مدينة كاد الوقت يجفُّ فيها والغناءُ يصير صوتَ أجلافٍ متحمسين، يبنون سياجاً يمنع الكركرات من خدش أسماع المايسترو، في مدينة كهذه، وفي فجر رمادي كان يتأهب لجعل المدينة صحواً جافاً، أستعيد هنا، أنا الحالم الحزين صوت الشاعر صلاح فائق: " لاشئ أقسى في الصباح/ من رؤية عمّال/ يشيدون السجون".

كتبٌ تحرق، وحقائب تعّدُ على عجل وأمهات (مات أغلبهن الآن) يشهقن لرحيل الأبناء المرتبك. ومثلما أسرني جواد الأسدي بعذوبة عرضه المسرحي "العالم على راحة اليد" هزّني برحيله السريع إلى بلغاريا تاركا نداءه "أوصيكم بأمسيات مع حبيباتكم وقد تعطرن بشذى القدّاح في الوزيرية "، ومضيت كالأخرق أتساءل: أيعقل جفاف كل هذا الجمال في المدينة؟ أيعقل ألا تتشابك الخطى ندية على عشب حديقة "المركز الثقافي البريطاني"؟ أيعقل ألا يعود جواد الأسدي ويضع بيننا تتمة عرضه الحالم الحزين؟ أيعقل أن لاتأتي (صفاء) الناعمة اللذيذة الذكية؟ أيعقل أنني لن أسمعها تغني "دقيت، طلّ الور عالشباك " وأبكي؟ هل إنني راحل؟ هل إنني قادرٌ على أن أكتم أنفاسي وأنهرها عن شمّ رائحة ورد "الرازقي"؟ كيف سأنسى النشيجَ في ليل الوزيرية حين أخوض طرقاتها المبللة بآخر رشقةٍ مطر في آذار، عابّا في صدري رائحة القدّاح، فيما لحنُ جاز يخرج من حانة نيويوركية ويصلني كونني صاحب "قلب كسير"؟ 

أمضي إلى آخر امتحانات الكلية كأنّ على رأسي الطير. سيارة " شرطة الأمن" المعروفة لعيون كثير من العراقيين في سبعينات القرن الماضي: (فولكسفاغن بيضاء)، عند الباب الرئيس المؤدي إلى عمادة الكلية، فأغيّر طريقي كي أدخل من الباب البعيد المؤدي إلى "قسم التشريح "،  ولحسن حظي إن الأستاذَ المشرفَ على قاعة الإمتحان، كان أشبه بصديق قبل أن يكون إستاذا ولطالما جمعتني به أحاديث عن الأدب، كما انه  نجل الروائي العراقي المعروف مهدي عيس الصقر،  وحين قابلني عند باب القاعة، أشار إلى انه يفضل دخولي من الباب الخلفي للقاعة،  دون أن ينسى القول: "أجب على الإسئلة باقصى سرعة واترك القاعة مثلما دخلتها، من الباب الخلفي". 

كنت أول الخارجين من القاعة، وكان الطريقُ طويلاً من "قسم الجراحة " إلى أول حي سكني ملاصق لسياج الكلية الذي قفزته، ومن هناك إلى محلات "صوت الفن" لبيع الأشرطة الغنائية الذي وجدت فيه ملاذاً يبعد عني الشبهات، وحولّت الغرفة الملحقة به إلى مايشبه المستقر، خوفاً من الذهاب إلى منزل العائلة الذي طرق أبوابه رجال أمن وحزبيون. وجدت في تسجيل الأغنيات وبيعها فرصة كي أجمع مالاً يمكّنني من السفر. كنت منتشياً وأنا أضعُ شريطَ "ساتدرداي نايت فيفر" في جهاز التسجيل الضخم، لتنبعث ألحان صاغها ثلاثي " بيجيز" لفيلم ترافولتا الشهير. أختار من الشريط أغنية "مور ذان أوومان" الراقصة حين يكون الراغب في اقتناء الشريط رجلاً، والأغنية الهادئة " هاو ديب إز يور لوف" حين يكون فتاةً جميلة.

الثوابت الجمالية التي كانت تحدد معرفتي بالموسيقى، " تهرأت" شيئا فشيئا، فمع الطيف الهائل لأذواق الآخرين، ومع إكتشافي نظرتهم اللامبالية بملامح الكارثة وهي تطل على المدينة من كل صوب، ومع تبدلات في مشاعري التي اقتربت من الغضب، تعرفت إلى رجال ونساء. 

من بين الرجال فاجأني ذات يوم بصوته الهاديء ونظرته القلقة من خلف زجاج نظارته، شخص أنيقٌ قال انه المترجم الخاص لوزير الثقافة والإعلام ( بناية الوزارة فوق محلنا الموسيقي)، وإنه يبحث عن الغريب والجديد في عالم النغم، سألني عن شريط في هذا الإتجاه،  فقلت أنا شخصياً أستمع إلى شريطٍ مأخوذٍ عن إسطوانة مزدوجة بعنوان "جلجامش" من تأليف وغناء السوري المقيم في فرنسا عابد عازريه، فاقتناه،  وعاد بعد أيام ليحدثني عن كنز من الأنغام في إشرطة من الموسيقى التركية،  حاملاً لي بعضها، غير انني لم أحتمل الإيقاع الهاديء حد الخفوت فيها، وأعدّتها له بعد أيام مع إطراء كاذب. 

انه مازن الزهاوي، الذي ربحتُ منه شريطاً نادراً يتضمن حفلةً غنائيةً خاصة للمطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي في إحدى البيوت البغدادية الراقية، إلتقيته في "نادي العلوية" بعد ثلاث سنوات من آخر لقاء بيننا في "صوت الفن"، ولكنه كان على غير ملامحه الهادئة، فهو قد أصبح " المترجم الخاص للرئيس" وفي نطاق بزته العسكرية مسدس ضخم، وفي يده اليمنى مفاتيح سيارته الفخمة، وفي اليسرى جهاز إتصال لاسلكي. الزهاوي ذاته وجد ميتاً في شقته ببغداد العام 1994!

ومن النساء الجميلات روحياً اللائي عرفتهن، صيدلانية بالقرب من محلنا تهوى الغناء العراقي " المجروح" كما كانت تقول، تقتني من ياس خضر " البنفسج " و " روحي "، مثلما تختار من فؤاد سالم " ردتك تمر طيف"، ومن قحطان العطار " يكولون غني بفرح "، ومن سعدون جابر " الكنطرة بعيدة "، ومن الملحن كوكب حمزة " صار العمر محطات "، غير إن هذه السيدة الأنيقة، لم تخف ذات يوم سعادتها اننا اشتركنا في الحماسة لأغنية الأميركية السمراء غلوريا غينور " آي ول سرفايف ". هي ذاتها كانت تحدثني بلهفة، كيف انها كانت محظوظة حين استمعت الى اليوناني ديمس روسوس في بغداد، وكيف بكت مع اغنيته " ذا غريك سايد أوف ماي مايند"، وكيف إنها عاشت مع عائلتها "ليلة من العمر" حين حضرت حفلاً غنائياً أحيته السيدة فيروز، وتضمن أغنيةً لم تزل حتى اليوم، أجمل لحن في وصف بغداد ومحبتها: " بغداد والشعراء والصور".

تلك الفسحةُ الجميلةُ التي اسمها "محلات صوت الفن" أغلقت، مثلما كان يتوالى هدمُ ملامح الجمال في بغداد، فذات ليلة جاءني صاحب المحل ليقول دون مقدمات: آسف أن يكون هذا آخر يوم لك هنا، أنا بعتُ المكان، وسأسافر إلى لندن وقد لا أعود! 

عدتُ خائباً إلى بيت "محمد روك" الشاب اليافع الصاخب الذي كان يشاركني العمل في المحل (صورة)، محملاً بنسخ أصلية من أشرطة وأسطوانات مقابل راتبي الأخير. شربنا كأسَ خسارةٍ جديدةٍ، لم أعرف إنها ستكون الأخيرة مع الذي كان يستمع بشغف غريب إلى إسطوانة "أنيملز" لفريق الروك "بنك فلويد"، فقد قتل في الأيام الأولى للحرب. 

 



الجندي المجهول في ليلة هدمه من قبل شركة هندية كانت تنفذ مشروعا للمجاري في بغداد


معه مات حلمٌ بغداديٌ شاب، مثلما في موسمٍ قريبٍ تال، صحا البغداديون على معلمٍ جميلٍ من معالم مدينتهم، وقد صار ركاماً، حين هدّمت السلطةُ نصبَ "الجندي المجهول" (صورة). ذلك التكوين المعماري المنساب بطريقة تقارب دلالات التضحية وسمو المعنى في الدفاع عن قضيةٍ عادلة، وليبدأ مع هدمه، موسمُ الإنقضاضِ على الذاكرة، غير إن المفارقةَ كانت حاضرةً في المكان والزمان ذاتهما اللذين شهدا "قتل الجندي المجهول" على يد شركة هندية كانت أصلاً تنفّذ عقداً لمدّ شبكة المجاري في بغداد، فقد بدأت عمليات بناء فندقي "شيراتون" و"ميريديان"، ومع إرتفاع طوابقهما كانت شعلة الجندي المجهول قد ذوت وصارت حكاية، تذروها رياحُ الزمان العراقي الكئيب. 

 بعد هناءات " صوت الفن " والمعرفة الحياتية العميقة، جاء وقتُ الكتبِ ودلالاتها، حين بدأت عملاً مع هاشم، صاحب "مكتبة النهضة" في موقعها البارز والمهم، فهي الأولى من سلسلة من المكتبات في أول شارع السعدون وكانت قادرة على استيعاب عشرات الآلاف من الكتب. ومن بين خطوات صاحبها الجريئة والذكية خرجت الطبعة الأولى لأعمال الشاعر سعدي يوسف الكاملة، غير إن الأمر بدا كله مفارقةً تامة، ففيما كانت ماكينات المطبعة تدور، كان صاحب "الأخضر بن يوسف " يغادر البلاد، تاركاً لي محنة السؤال وهو القائل: "بخرابه أرضى "؟ انا الذي كتب عني سطوراً أخذتني إلى الغواية تماماً دون أن يعرفني، حين وقعّ تعليقاً على أربع قصائد قصار نشرتها لي صفحة "أدب الشباب " في جريدة " طريق الشعب" العام 1975 وفيها: "يتقدم صاحب هذه المقاطع الشعرية الى قصيدة النثر بثقة …"، السؤال طاف غيماً على سماءً صحوها أجرد وفاقع، فاكتفيت بنظرة ساهمة، لم تكن شحيحة، فهي تطاول " جدارية فائق حسن" التي كانت عنوانا لواحدة من أبرز مجموعات شعر يوسف. 

ومثلما اقتنيت أشرطة واسطوانات مختارة بدقة مقابل راتبي في محل الأغاني، كنت أقتني كتباً، وكان الراحل هاشم يقدّر ذلك لي فيجعل الكتب بنصف السعر، على الرغم من كونه معروفاً ببخله الشديد، لاسيما بعد ان وجد مقالاتٍ لي وقصائد منشورة في مجلة " الثقافة " التي كان يصدرها الراحل صلاح خالص.

نذرُ الرعبِ كانت تطلّ على البلاد، والكارثةُ تكشف عن ساقيها، غير أن ماجعل تلك النذر تصبح نذيراً، قول للناقد والمترجم والمثقف الموسوعي نجيب المانع، فذات صباح وفيما كنت أضع مجموعة من الكتب والمجلات في مدخل المكتبة، حيّاني بابتسامة مرسومة بعناية كما نظراته النقدية العميقة حين يصوغ من نقد الموسيقى، نصوصاً في الأدب والمعرفة، لإسارع بدعوته إلى فنجان قهوة، بعد أن حملت له كرسياً ونسخةً من العدد الجديد لمجلة " الهدف" الفلسطينية  التي كانت تصلنا من بيروت،  وفيه قصيدة لي عن الشاعر البحريني القتيل سعيد العويناتي، وأسأله: ما رأيك بالمفاجئات القادمة من طهران: "وصل الخميني والناسُ رفعت سيارته على الأكتاف"، وعلى النقيض من حماستي التي كانت، على نحو ما، تعويضاً عن خيبتي / خيبتنا المحلية، قال : "يا ابني إن ماتراه باعثاً على السرور،  هو مدخل إلى موت أسود سيحصد بلادنا وأهلها"! ولولا محبتي الكبرى للرجل، وتقديري الذي يقارب التبجيل، لكنت أسمعته مابقي مضمراً فيّ من شعارات الثورية الجوفاء: "هذه مخاوف البرجوازيين الصغار من حركة الجماهير"، ولم تمض سنةٌ أو أكثر حتى كان "الموت الأسود" يطل من شبابيك البيوت في أرجاء العراق كلها.

إلى مكتبة هاشم ذاتها كانت تصل مجموعاتُ كتبٍ مختارة، اكتشفت لاحقاً انها كتبُ شعراءٍ ومثقفين كنت على معرفة وثيقة بالعديد منهم، وهم وجدوا في بيعها آخر الخيارات الكئيبة، بل آخر علامة على استحالة البقاء في مكان كان العقلُ فيه الى تصحّرٍ أو جنون. ومن بين كتب موقّع عليها إسم الشاعر جليل حيدر، إشتريت كتابا لطالما احببته، وكوّن معالم ذائقتي في الأدب والفن والعلوم، كتاباً كنت اقتنيته يوم صدوره، وكعادة أقراني في تلك الفترة، أهديته إلى صديقة، تعبيراً عن إعجابي بها، انه كتاب " الإطروحة الفنطازية " للكاتب الموسوعي علي الشوك، الكتاب الذي لم أتردد في إعتباره واحداً من أحسن عشرة كتب عربية صدرت في القرن الماضي ضمن إستفتاء ثقافي أجرته صحيفة "القدس العربي" الصادرة في لندن.

إنتهى العام الدراسي ونلت شهادة البكالوريوس في الطب والجراحة البيطرية. 

في صباح الثاني والعشرين من أيلول 1980، كنت نائما على سطح " قلعة راوندوز " في مكان جميل من كردستان العراق حيث كنت جندياً مسؤولاً عن فحص اللحوم والأغذية الطرية لنحو 20 قطعة عسكرية حين مرّت على مستوى منخفض 12 طائرة عراقية قاصفة، متوجهة إلى الشرق، حينها إستفاق الشاعر فوجد نفسه " صنديد البوابة الشرقية “.





 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM