نقد أدبي  



في الشعر العراقي الآن.... إبراهيم البهرزي: الضمير حتى في رنينه الخافت

تاريخ النشر       19/09/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام*
مع بدء الحرب الاميركية في العراق بايام كتبت مراجعة ثقافية في صحيفة "الحياة" اللندنية، قاربت فيها حال شعراء عراقيين وهم باتوا تحت النار ممن كانوا واجهوا مجنزرات القتل والذل دون ان ينحنوا، وكيف ان نصوصهم صارت منذ سنوات، ملتهبة وتعيش حروبها  السرية والمعلنة، فكيف بهم وقد اطبقت النار على فضاءات البلاد ؟ كيف ارتعاشاتهم، كيف خيباتهم، كيف انفاسهم المنهكة؟ كيف السبيل الى فسحة تحتمل جراحهم فيما النشر اقفلته تماما قصائد المديح ؟
ورحت اجوب كل مدينة مدينة بدءا من الجنوب، وصولا الى ببغداد وما جاورها: ديالى "في مدينة تغفو على واحد من روافد دجلة، على " نهر ديالى " وهو احد  اعذب الأنهار في العالم قبل ان يتحول مكبا للنفايات، ينشد النائي عن صخب الشعر العراقي المتمثل بتمجيد القائد او حتى بالموجات الشكلانية الزاعقة (نص اللا معنى الثمانيني والتسعيني)، الشاعر ابراهيم البهرزي، قائلا : " صعبة هي حقا / ولكن اذا كان كل الذي نحب / فرائس للمتوحش في هذه الأرض / بأي الحدائق / سوف نضّيف ماضي الربيع / ونستوطنه ".


الشاعر إبراهيم البهرزي
 
 
وأخذت جملة "فرائس المتوحش في هذه الأرض"، لأضعها عنوانا لتك المراجعة، التي لم تكن خاتمتها عند البهرزي، الا وعدا ضمنيا بكتابة عن شعره وجوانيته الخاصة المتفردة التي تحيل لا الى شاعر من طراز خاص في المشهد الثقافي العراقي وحسب، بل الى انسان ظل يتمثل جوهر الثقافة بوصفها موقفا نقديا من اي سلطة، وتحديدا السلطة السياسية، فهو اعمق وابعد من صورة "المنتمي" يساريا، حزبيا وفكريا، وهو ظل صاحب رؤية بوصلتها جوهر البلاد: الانسان، لا صورتها "الوطنية" الزاعقة الفجة.
من هنا كنت اعرض لنصوصه، التي ينشرها في صحف ودوريات عربية، في وسائل اعلام المعارضة العراقية للنظام الديكتاتوري، ولكن بطريقة تكشف حيرتي الانسانية العميقة، فلا كنت قادرا على الكشف عن جوهر مضمونها المتبرم الناقد لحال بلاده وانسانها، كي لا يبدو ذلك موقفا قد يجّر عليه غضب النظام "المتوحش" وبالتالي يتحول شاعرنا الى واحدة من "فرائس المتوحش"، ولا كنت قادرا في الوقت ذاته، من اخفاء الحفاوة بكتابته وعمقها وفرادتها، ولكن كانت الكتابة تأتي، رغم كل هذه التحسبات، تلقائية تليق بالبهرزي وموقعه في الشعر العراقي المعاصر.
في نصوصه التي نشرها هذا العام، لا يترفع البهرزي على حال بلاده، ولكن لا يسقط في حضيض وقائعها، انه ما انفك يمضي في مسار حامل الفانوس عبر طريق حالك مكفهر، ولكن دون خوف ولا كلل او جزع، كأنه يضعنا امام اسئلة جوهرية من نوع: ما الانسان دون ندم او أسف، ما الانسان ان كان غير قادر على السماع لجرس ضمير حتى وإن كان خافتا"؟
ويكفينا منه هذه الالتماعات الروحية في نص نشره مؤخرا ويحمل عنوان" في الغابة ثمّة َ من يُحبّك"، ونقرأ فيها نقدا عميقا لليأس وإن كان ذلك يبدو في مدار شخصي، لكن متى كان شاعر من السياق الفني والانساني الذي يمثله، ابراهيم البهرزي، مدارا شخصيا وحسب، انه تمثيل لمسار "وطني" هائل في عذاباته وآماله:
"لستُ حزيناً حَدَّ العتمةِ /....شجرُ الحور الاكثرُ حزناً أخضرَ/أخضرَ كالضحكِ". هنا مستويات تعبيرية تبدأ من نقد الذات ويأسها، لتصل الى الاستعانة بما هو طبيعي " شجر الحور"، لردع قوة الموت السوداء الكامنة في الذات المقهورة، وتضعنا في مستوى ثالث هو ما يتضمنه الحزن من تشكيل عميق للامل، "شجرُ الحور الاكثرُ حزناً .. أخضرَ"، هو فعلا كشجر، "أخضر"، والخضرة َ هنا تبدو ضاحكة هنا بوجه الافق المدلهم بكآبته.
وهو اذ يمضي في مسار انتزاع المعاني المناقضة لاصلها "ريشةُ الغرابِ مُبلّلة ً بالندى أيضاً "، يتعب احيانا، ويجزع حد انه يقول: "أريدُ الطريقَ الذي لا يثيرُ الجلبةَ/ خالياً من الورقِ المتساقطِ/ خالياً من العشبِ والأدلّةِ
خالياُ من الطريق ".
ومثل هذا الاندراج العميق في تجليات المعنى الانساني، لا يسلب منه التماعات الشاعر المتفردة، فالنصوص كي تظل مؤثرة، ليس بالضرورة ان تكون توثيقا امينا، فقد انتهت مهمة الشعر بوصفه مرآة عاكسه لمجتمعه، لتبدأ مهمة الاسناد الروحي عبر الجوهر الفني لمسار الانسان حتى في اشد ممراته حلكة وظلمة:
"لستُ حزيناً حدَّ العتمةِ/ ولاباكياً على مَضيعةِ الوقتِ/ انا أنتظرُ النسمةَ لا العاصفةَ/ باسمةً تهشُّ بصباحِ الخير ومسرعةً تمضي/ كلُّ شيءٍ وجيز ٍ جديرُ بالذكرى/ وجيزةً/ وجيزةً كوني / كلذّةٍ صاعقة".
هنا هو ما يكون، الاندراج العميق في تجليات المعنى الانساني، دون ان يكون بالضرورة ان تكون "توثيقا امينا" لوقائع الراهن العراقي السود. وهو لعمري غاية الشعر وجوهره.
النص:
في الغابة ثمّة َ من يُحبّك َ.......
لستُ حزيناً حَدَّ العتمةِ ....
شجرُ الحور الاكثرُ حزناً
أخضرَ
أخضرَ كالضحكِ ,
ريشةُ الغرابِ مُبلّلة ً بالندى أيضاً ,
هل قلتُ انَّ الشمسَ اكثرُ سطوعاً في السواد ؟
تقولينَ :
انَّ الغابةَ اكثر أتّساعاً من الحقيقة
وأنَّ غموضها اكثرُ وضوحاً من دهشتكَ
وانتَ مثلَ الريح لا تعرفُ ما تريد.....
ولستُ تائهاً حدَّ الغبار
ما أريدُ وما لا أريدُ يتشابهانِ أحياناً
هكذا
ورقةُ الموزِ المنكسرةِ
مثلَ برعم الطحلب الصغيرِ
أصفرَ
أصفرَ كالشهداء ,
هل قلتُ انَّ اطواقَ الورود والمراثي سخريّة ً مُرّةً
وانَّ السوادَ نفسهُ وشاحُ الخيانةِ
وانّ الارادةَ نفسها
بجعةً كسيرةُ الجناحِ
مرةً تضرب ُ الماءَ
واخرى يضربها هو
في عراكٍ غير عادلٍ .؟....
أريدُ الطريقَ الذي لا يمرُّ به الليلُ
حانياً على ذلك الحيوان الضاري ,
من برعمِ وردةٍ يندفع احياناً
أو شَقٍّ صغيرٍ في الجذوع المتعفنةِ
حيوانُ الجزعِ الذي لا يُرى
بمخالبهِ الناشبة ِ.....
أريدُ الطريقَ الذي لا يثيرُ الجلبةَ
خالياً من الورقِ المتساقطِ
خالياً من العشبِ والأدلّةِ
خالياُ من الطريق ....
لستُ حزيناً حدَّ العتمةِ , ولاباكياً على مَضيعةِ الوقتِ
عندي وشل البهجة ِ في قَرارةِ كأسٍ
وعَقَبُ سيجارةٍ
وعندي من الاغنيات القديمةِ
ما يحرّضني على الطواف ِ في الغابةِ عارياً
أتلمّظُ بالندى...
هل قلتُ انَّ الدم يندى من الغصون ِ العاليةِ
أحمرَ
أحمرَ كالرفقة ِ ؟
تقولين:
في الغابةِ ,ثَمّةَ من يحبّكَ
انا أنتظرُ النسمةَ لا العاصفةَ
باسمةً تهشُّ بصباحِ الخير
ومسرعةً تمضي
كلُّ شيءٍ وجيز ٍ جديرُ بالذكرى ,
وجيزةً
وجيزةً كوني
كلذّةٍ صاعقة...
 
* قراءة نقدية منشورة في ثقافية "المدى" ايلول 2014




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM