نقد أدبي  



عبد الوهاب البياتي: المنفى - الحرية في سِفر الشعر والحياة.....

تاريخ النشر       19/09/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير*
 
إذ نكرم في هذا العدد الخاص من شهرية الثقافة العراقية" اوراق ثقافية", شاعرنا الكبير عبد الوهاب البياتي, فنحن إزاء عشرات المبررات الموضوعية التي تمنح البياتي مأثرة الاهتمام, غير أن أكثرها (ضرباً على وترنا) المجروح هو أن شِعره وسفره الحياتي ظلا متصلين بفكرة (المنفى) لا بوصفها انعكاساً لجدل الحرية والدفاع عن قيم الخير والجمال, ومن هنا لا عجب أن يقول البياتي بعد رفقة طويلة مع المنفى إن "كل المنافي وطن واحد" وأن يقول بشأن ما منحه المنفى وما أخذ منه:
     "في الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات, كنت أحس بأنني أشبه بالساعة الرملية أو بالكنز الذي كان يراه طرفة بن العبد ناقصاً كل ليلة, ولكنني أدركت فيما بعد, من خلال لعبة المنفى والوطن, أن العالم منفي في داخلنا, وإنني رهينة في هذا المنفى مثل بقية البشر, وعندما طال بي الأمر وحدثت تغيرات دراماتيكية في العالم وفي الشرق العربي, حيث سقطت ممالك ولم تقم, وقامت ممالك من تحت الرماد وهي ميتة, وقامت هجرات خطيرة لكل الشعوب عبر القارات والبحار, تأكدت بشكل قاطع أن الحائط الذي يفصل الوطن عن المنفى, قد انهار وأصبحت كل المنافي وطناً واحداً, أصبحت هي أوطاناً, فالشروط اللا إنسانية, الاجتماعية والاقتصادية والثقافية, قد سحقت الإنسان في كل مكان, وما لغة الإنسان الآن, إلا صيحات استغاثة للبحث عن أوطان جديدة دون جدوى, وللتعبير عن الكارثة التي حلت بالبشرية في القرن العشرين, بعدما تمت السيطرة للقوى الأوحدية في العالم, ولم يعد هناك صراع ديكة, حتى ولو كان على المسرح, حيث لم يعد هناك هاملت يطرح أسئلة, فالأسئلة أصبحت لا معنى لها ولا جواب, بل أحياناً يصبح الجواب هو السؤال, وهكذا فإن القوى الفاشية والديكتاتورية في العالم الثالث قد فازت في اللعبة في آخر الأمر, إذ أن ما أنجزه العالم الثالث من تراث, قد مسخه هؤلاء المتخلفون القادمون من أكثر مدن وقرى العالم تخلفاً, وبهذا أصبحت القاعدة مقلوبة, كما أن الوهن وأعراض مرض الشيخوخة صارت تدب في أوساط العالم الأول, فازداد تكالباً ووحشية ونهباً للعالم الثالث, الذي يتربع عليه الفاشيون المتخلفون, لذلك وبعد هذا, يصبح السؤال...أي منفى هذا الذي نحن فيه؟"

     وعن ملامح شِعره المكتوب في آخر موجة من أمواج بحر المنفى الذي إنقذف إليه, يقول البياتي:
     "لقد دخلت مرحلة جديدة في حياتي, هي مرحلة المتأمل في وجه الموت, وإذا كان بعض الشعراء قد يصابون بالجزع وهم يبلغون السبعين من عمرهم ويشعرون بأنهم اقتربوا من الموت,, فأنا أقول بأنني قد مت سبعين عاماً, فما الذي يخيفني من الموت, هذا هو الشعور, أو المناخ الذي أكتب به قصائدي الجديدة, وهي القصائد التي بدأت تنسلخ من الزمني إلى الأبدي, كما تنسحب بعض المجرات والنجوم إلى أعماق الكون المظلم, لكن كل خيط في هذه القصائد الجديدة, يظل مرتبطاً بشِعري, كما يرتبط طفل بحبل السرّة".
     وفي ما يتصل بالمأساة العراقية, وما تركته الديكتاتورية من آثار دموية على بناء الإنسان العراقي وهل ثمة وسيلة لكشف الوقائع المرة التي عاشها العراقي خلال سنوات الموت العشرين الماضية, يقول البياتي:
     "كما إن العراقي محاصر في وطنه من قبل السلطة الديكتاتورية القائمة, فإنه محاصر في الخارج بجدران عالية غير مرئية تحد من وصول صوته الصارخ في البرية إلى أسماع العالم, وبالرغم من أن العالم يعرف كل شيء, فقد بات لا يفرق بين الجلاد والضحية, بل إنه يقسو على الضحية, أكثر مما يقسو على الجلاد, ولذلك فإن على المثقف العراقي واجباً مقدساً وصعباً وشاقاً, فهو مطالب بالإبداع وبالتعبير عما حل بنا وبشعبنا, ولكن بشروط الإبداع وليس بشروط السياسة, وهذا ما حاولته أنا, وإن بشكل متواضع في قصيدتي "التنين" فأنا أعتبر هذه القصيد ليست قصيدة سياسية, إنها تعبر عن أسطورة الديكتاتور, الذي يشبه التنين الذي يتناسخ كلما قُطعت أطرافه, وإذا كان البشر قد عجزوا عن قتل الديكتاتور حتى الآن,, فإن القصيدة تضع مجرد سؤال أمام القوى المرتبطة بنضال الإنسان, بأن تقتلع هذا الديكتاتور, الذي يتربع فوق خرائب المدن منذ العصر الحجري وحتى الآن, فقد حاول البشر آلاف المرات دحر أسطورته, ولكنهم كانوا يُخدعون, ومن خلال خديعتهم ينهض ديكتاتور جديد, ولذلك أقول على الشعب العراقي أن يعي هذه الحقيقة وأن لا يسمح بأن يُعيد التاريخ نفسه, لأننا سنقع بعد عشر سنين أو أكثر بنفس الدوامة, وندفع المزيد من الدم, كما دفعنا منذ عهد السومريين وحتى اليوم...فلقد أشرقت الشمس في الماضي عشرات المرات, لكنها كانت شمساً كاذبة, دفع الشعب العراقي ثمناً فادحاً من أجل تقديم القرابين لها, وهذا ما يدفعني إلى القول, بأن دور المثقف أهم بكثير من دور السياسي, وعليه أن يشق طريقه ويبدأ بتعليق الجرس, وإلا فإن اللعبة ستتم أو تعيد نفسها.
     وعن النتاج الثقافي العراقي في المنفى, وإذا ما لفتت انتباهه ظاهرة ما في هذا النتاج, فإن البياتي حامل سؤال الحرية, يقول: "لاحظت منذ نهاية 1995, أن هناك وعياً جديداً يتبلور عند المثقف العراقي في المنفى, إذ بدأ يحس إحساساً عميقاً بفداحة الكارثة, التي وقع فيها الشعب العراقي, وبدأ الإنتاج الشِعري والروائي والفني, يأخذ منحىً جديداً, وظهرت إرهاصات كثيرة في هذا الإنتاج, أعتقد أنها ستنضج عمّا قريب.

علي عبد الأمير وعلي السوداني في "ركن البياتي" بمقهى الفينيق في عمّان بعد ايام على رحيله

     وأمام منفى المستحيل, لابد أن يصنع المثقف معجزته, ومن هنا تأتي بطولة المثقف العراقي, أي أن الأمر يحتاج إلى معجزة إنسانية, وهذا ليس بمستحيل, فالجياع في العالم هم الذين حطموا الإمبراطوريات, ولصوص العالم هم الذين سرقوا الثورات".
     و (أبو علي) إذ يتابع نبض الثقافة العراقية في المنفى, فإنه ينظر إلى أنفاس المثقفين داخل الوطن وهي تتقطع بين أساليب الإرهاب الفكري وبين حياة تزداد وطأة, فيقول عن محاولة نظام التضليل والتزييف, تجيير مواقف المثقفين لصالح خطابه:
     "أعتقد أن النظام قد فشل فشلاً ذريعاً في ذلك, ليس الآن, بل منذ خاض حرب الخليج الأولى, إذ فقد المصداقية, ولم تعد أكذوبته تنطلي على العالم, ومنذ ذلك الوقت بدأ المثقف في الداخل ينكمش على نفسه ويوجه لها الأسئلة, لكن الخوف والرعب والحاجة المادية, كانت تدفعه إلى التمثيل والتظاهر بموقفه من النظام, لكن الحرب الأخيرة, اقتلعت كل شيء من جذوره, وكشفت عورة النظام الديكتاتوري الدموي وحقيقته وكونه كان أداة لتدمير بلاده وتصحيرها ودفع أبنائها إلى الهجرة, أي إفراغها من مضمونها الروحي, وجعلها بلاداً مستهلكة بكل شيء, بل وجاهلة.
     ومَن ينظر إلى الواقع الثقافي, الآن في الداخل, يجد أسماءً لا يعرفها, لشعراء وكتّاب, قد يضحك القارئ وهو يقرأ ما يسطرونه, إذ بعد هجرة المثقفين إلى الخارج, حل رواد المقاهي وقرّاء الصحف بالمقلوب, في المؤسسات الثقافية والصحافية, أما المبدع الحقيقي الذي بقي بين جدران السجن الكبير, فقد آثر الخلود في بيته والصمت, خوفاً من الوشاة ومن الجدران التي تتنصت وتتلصص عليه, وقد يقدم بعضهم رشوة صغيرة إلى الوحش, ولكنه يشعر بأنه قد تلوث إلى الأبد".

 

* كلمتي كرئيس تحرير مجلة "أوراق ثقافية" الصادرة في عمّان  العدد 10 س1 أيار وحزيران 1999والخاص بالشاعر عبد الوهاب البياتي الذي رحل بعد صدور العدد بشهرين.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM