نقد أدبي  



الثقافة العراقية 2000: حصار وعزلة تحت هيمنة المؤسسة الرسمية

تاريخ النشر       25/09/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير
شكلت هجرة المثقفين العراقيين هاجساً لدى المؤسسة الثقافية العراقية الرسمية طوال العام الماضي, فجاء قرار وزارة الثقافة والاعلام تقسيم الأدباء والكتّاب في العراق الى ثلاث فئات يتقاضى بموجبها المشمولون رواتب شهرية في سعي لاقناع المثقفين بالبقاء داخل الوطن بعد هجرة شبه جماعية بدأت إثر حرب الخليج الثانية لتطاول معظم أجيال الثقافة العراقية.
واذا كانت الرواتب بوصفها "ثمناً" ممكناً للسكوت عن حال غياب الرأي الحر الذي يعيشه العراق وثقافته منذ ربع قرن تقريباً, عكست شكلاً لاهتمام المؤسسة الثقافية بهجرة الأدباء والكتّاب, فإن شكلاً آخراً برز أيضاً خلال عام 2000 وتعاطى مع الهجرة أيضاً باعتبارها نوعاً من الاحتجاج فأصدرت صحيفة "الزوراء" الاسبوعية الناطقة بإسم "نقابة الصحافيين العراقيين" ويرأسها عدي النجل الأكبر للرئيس العراقي صدام حسين "قائمة أولية" في شهر آذار (مارس) تضمنت عدداً من الكتّاب "المرتدين" اعقبتها "قائمة موسعة" في شهر تموز (يوليو) تضمنت ثلاثة تصنيفات للمثقفين العراقيين في الخارج فكانوا "مرتدين" و "وسط" و "باحثين عن عمل".

صورة المقال منشورا في "الحياة"
 
وبحسب المؤسسة الثقافية الرسمية فإن قائمة "الزوراء" مرتبكة وسريعة وغير دقيقة في مصادر معلوماتها, ما دفعها الى تشكيل لجنة برئاسة وكيل وزارة الثقافة والاعلام الشاعر  حميد سعيد في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) تهدف الى "قراءة موسعة ودقيقة" لهجرة المثقفين العراقيين وتحديد مواقفهم قياساً الى قربهم او ابتعادهم من السلطة. وستحدد اللجنة إصدار قرارات للتعاطي مع "المثقفين الناشطين" في تبنِّي مواقف تراها مضادة للسلطة, كشفت مصادر موثوق بها ان من بينها مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة وإسقاط الجنسية العراقية عمّن نالوا جنسيات اخرى في بلدان المنفى.
انتظمت الدوريات الثقافية العراقية: "آفاق عربية", "الاقلام", "الموقف الثقافي", "الطليعة الأدبية", "المورد", "التراث الشعبيي", في الصدور, غير أن خطاباً واحداً جمعها, قائماً على تعزيز "الولاء" للقيادة السياسية للحزب والدولة ليصبح القوس الذي تمر من تحته الأشكال الأدبية وإن كانت غير عراقية كما هو الحال في مجلة "الثقافة الأجنبية" على رغم حرص رئاسة تحريرها على الخروج من أُطر ذلك الخطاب "التعبوي" الذي لا يناسب خطاب الآخر المتعدد.
وبينما سيطر الخطاب الفكري والسياسي على "آفاق عربية" حاولت "الاقلام" استعادة بعض أثرها الذي كان عربياً لافتاً إضافة الى عراقيته, فنشرت مقالات ونصوصاً عربية نقلاً عن دوريات وشهريات ثقافية, وبعد عددين تطابقا في موادهما المنشورة ونصوصهما مع الإيحاء الدال على إسمها, تراجعت مجلة "الطليعة الأدبية" التي عاودت الصدور عام 1999 بعد توقف دام نحو تسع سنوات, وراحت لمسات المؤازرة للتجارب الجديدة والمغايرة في الأدب العراقي تنسحب لمصلحة قراءة تستمد منهجها مباشرة من ايديولوجية "البعث الحاكم" بحسب رئيس تحريرها القيادي البعثي البارز والشاعر محمد راضي جعفر.
اذا كان "شارع المتنبي" طوال سنوات مضت, شارع المطابع والقرطاسية وتجارة الورق, فإنه في التسعينات شهد حركة ونزوحاً من المثقفين العراقيين نحوه, فهو مكان بيع مكتباتهم لضمان لقمة العيش ومقايضة نادر مقتنياتهم من الكتب بالجديد الغالي الثمن والذي تتحول نسخته الواحدة الى مئات من طريق الاستنساخ (التصوير). وعبر هذه الطريقة خرجت مجموعات شعرية وقصصية وبيانات ثقافية ومذكرات من دون المرور بالرقابة فجاءت "حرة" في خطابها وفي تأويلاتها للكارثة العراقية بأبعادها, قبل ان تدرك المؤسسة "الرسمية" النواة التي بات يشكلها شارع المتنبي, فقررت تشغيل مطابعها المشغولة طوال السنوات الماضية بطبع الأعمال الكاملة للرئيس صدام حسين وبطبع الأوراق النقدية, فظهرت كتب في النقد والرواية والشعر والفكر كما ظهرت سلسلة "ضد الحصار" للأدب الجديد وعاودت "الموسوعة الصغيرة" ظهورها وان في شكل غير منتظم الصدور كما في الثمانينات.
وعلى رغم هذا "الانفتاح" الرسمي على شارع المتنبي إلا ان المثير فيه و(المرغوب) ايضاً ظل بعيداً عن قدرة المؤسسة الرسمية على انتزاعه, فالشارع هو المكان الذي تصل اليه الكتب الممنوعة اما من طريق الأردن وسورية, او من طريق كردستان حيث الانفتاح على المطبوعات العربية الوفيرة, كما أصبح الشارع المكان المولِّد لكتب ومراجع في الفكر الشيعي الذي ترسّخ حضوره كخيار حياتي وثقافي في العراق عززته ظاهرة المرجع البارز محمد صادق الصدر الذي أُغتيل في شباط (فبراير) 1999, ولفرادته في كونه مصدر الثقافة "الممنوعة" فغالباً ما يتعرّض الشارع, وبالذات في أيام الجمعة, الى مداهمات تطاول مجموعات الكتب المعروضة للبيع وذلك للتنقيب عن الكتب الممنوعة.
 قاعتان جديدتان اضيفتا هذا العام لتصبح بغداد تضم نحو 12 قاعة عرض فني خاصة إضافة الى قاعات "مركز صدام للفنون" وتأتي هذه الزيادة في عدد القاعات لتستوعب النتاج المتصاعد في الرسم والنحت والخزف الذي بات يتوجه أساساً الى التسويق في خارج العراق مما جعل المستوى الفني للأعمال التشكيلية يتسم بتراجع بات يعترف به نقّاد تشكيليون, مثل عادل كامل وعاصم عبد الأمير.
 ثنائية عجيبة ميّزت العروض المسرحية العراقية خلال العام 2000 وإن كانت امتداداً لما تميزت به عروض السنوات الماضية, فالمسرح "الجاد" لم يكن غير "بكائيات" ايام الحصار كما في مسرحيتي "الجنة تفتح ابوابها متأخرة" و "اكتب بإسم ربك" حيث الكم الهائل من الحواريات الفجائعية التي تقدم الجوع واليأس والعزلة والحرمانات من دون نقل ذلك الى مصائر إنسانية متحركة, فتستعير الخشبة اشكال الندب والنواح بينما يتراجع المسرح العراقي بفنونه التي حاولت تأصيل الحداثة وإعطائها ملامح محلية.
وحال المسرح "التجاري" الأكثر حضوراً وتأثيراً بين قطاعات الجمهور ازدادت سوءاً لجهة استعارة المسرح الخاص والحكومي ايضاً في عروضه "التجارية" تقاليد الملاهي والنوادي الليلية في الرقص والقفشات المحملة بالايحاءات الجنسية في رغبة واضحة من رموز هذا المسرح في محاكاة المسرح المصري التجاري, ولا غرابة في سيادة هذين النموذجين: "بكائيات" الحصار ومسرح الرقص وغناء الغجر, وفي ان يكون "عرابها" واحداً وهو المخرج محسن العلي, فهو مخرج عَرضيْ "الجنة .." و "اكتب بإسم ربك" مثلما هو مخرج عروض الغناء والرقص!
الشعراء العرب (المجهولو الأسماء) الذي اعتادوا المشاركة في مهرجان "المربد" منذ ثلاث سنوات اعتماداً على مبدأ "الحشود" وليس مبدأ الجدارة الفنية, كانوا يشعرون كأنهم في صف دراسي يردد مع المعلم نشيداً واحداً ونَصاً واحداً, هو نَص المديح للعراق وللرئيس صدام حسين تحديداً, فيصبح المثال, البطل, المنقذ, المخلِّص, العبقري, الفذ ولتَختصر صورته العراق وليصبح اسطورة تسحق حكايات العذاب العراقي.
 وفي هذا العام فن الانتظام الجماعي في نَص المديح شاركت أسماء شعرية عربية معروفة كالشاعر محمد القيسي والشاعر خالد ابو خالد, حاولت ان تقرأ شيئاً مختلفاً عما قرأه – بما يليق بالمنبر – شعراء مثل: مصطفى سند وآية يوسف وقيع الله ومجذوب عيدروس ومحمد آدم وأبو عاقلة ادريس وعبد السلام كامل (السودان) واحمد الحمصي وحسن نور الدين وعبد الكريم شمس الدين (لبنان) وابراهيم عباس وفاضل صفوان (سورية) وحبيب الزيودي ونزيه القسوس وشهلة الكيالي وعيد النسور واحمد المصلح وحكمت النوايسة ونضال برقان (الأردن) وغيرهم من الجزائر وتونس والبحرين وسلطنة عمان والذين قالت الصحف العراقية عنهم "هتف الشعراء حباً لبغداد والقائد الحبيب" وأنهم حين انتقلوا الى منطقة "المربد" في البصرة حيث كان شعراء العرب يلتقون قديماً لمنافسات القول الشعري, لاقتهم "المضائف والسرادق التي اقامها شيوخ العشائر حيث تتجلى الضيافة العربية الأصيلة".
ومع تلاقيات "المعنى": الشعر مع شيوخ العشائر من اجل نشيد المديح يصبح تعليق صحيفة "الجمهورية" البغدادية على شعراء المربد "إنهم أبلوا بلاءاً عظيماً" توصيفاً عن لحظة شعرية تتكثف فيها علامات التراجع الفني والغرابة إنها تتم على أرض احتضنت خطوات التجديد المؤثرة في الشعر العربي, خطوات السيّاب الذي بدا غريباً وشعراء المديح يحيطون بتمثاله الواقع على ضفة "شط العرب".
     ما ميز النتاج الثقافي العراقي خلال العام, هو الحضور اللافت لـ"دار الحكمة" المرتبطة بديوان الرئاسة والتي يديرها حامد يوسف حمادي السكرتير الشخصي لصدام حسين طوال نحو عشر سنوات والوزير الأسبق للثقافة والاعلام, ومع ست مجلات شهرية وعشرات الكتب في الفكر والسياسة والعلوم والتراث والأدب والتاريخ والفلسفة أقصت "دار الحكمة" المكانة التي كانت تحتلها منشورات وزارة الثقافة والاعلام باعتبارها الأولى والوحيدة في العراق, وباتت تستقطب باحثين وأكاديميين وأدباء وكتّاباً في حلقات دراسية وبحوث موجهة وتمنح مكافآت لا تمنحها عادة للوزارة العتيدة, حتى ان مثقفين عراقيين لم يخفوا ان تكون الدار "مسنودة" من جهات متنفذة في السلطة اكثر من قيادات "مكتب الثقافة والاعلام القومي" التابع لحزب البعث الحاكم الذي يسيطر على شؤون الثقافة والاعلام في العراق.

* تقرير نشر في ملحق "الحياة" الثقافي 19 كانون الأول 2000

 

 

 



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM