نقد أدبي  



القاص والروائي العراقي محسن الخفاجي يرحل بعد مسار زاده السجن الاميركي عتمة

تاريخ النشر       16/11/2014 06:00 AM


بغداد- علي عبد الأمير*
ما إن صدر كتاباه القصصيان "سماء مفتوحة إلى الأبد – 1974" و "ثياب حداد بلون الورد- 1979"، حتى صار محسن الخفاجي، إسما يشار اليه بإمعان نظر، في تيار التحديث الذي واصله السرد العراقي، وهوما دأب عليه حتى بعد اعلان الحرب العراقية- الايرانية 1980-1988، وله في وقتها الملتهب، روايتا "وشم على حجارة الجبل- 1983" و "العودة إلى شجرة الحناء- 1987"، ليدخل زمنا صعبا، ثقيلا بل وكابوسيا، هو وملايين العراقيين الذين اضناهم الحصار الاقتصادي، ويصدر تحت عتمة ايامه مجموعتين قصصتين هما"طائر في دخان- 1996" و "إيماءات ضائعة – 2001" ورواية "يوم حرق العنقاء- 2001".

الراحل محسن الخفاجي

فضلا عن هذا النتاج السردي، فالخفاجي الذي رحل أول من امس في مدينة الناصرية، جنوبي العراق، إثر جلطة دماغية، مترجم لكثير من النصوص الفكرية والادبية عن الانجليزية التي كان يدرّسها لابناء مدينته، فضلا عن كونه عارفا بفنون لغة شكسبير وآدابها. تلك المعرفة التي قادته الى ما سيصبح مقتله الحقيقي: الاعتقال لنحو 3 سنوات في سجن بوكا الاميركي بمدينة البصرة، ثم "سجن ابو غريب" الرهيب ببغداد، فهو ذهب الى قوات الرئيس بوش ما إن دخلت مدينته في نيسان (ابريل) 2003، ليعرض خدماته مترجما، لكنه اتهم لاحقا بإعطاء "معلومات مضللة"، فأودع السجن حتى الثالث والعشرين من نيسان (ابريل) 2006.
تلك التجربة التي زادت مساره الحياتي والفكري عتمة واختناقا، لم يستطع الفكاك منها، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة شبه محطم ومحاصر بمتاعب تبدأ ولا تنتهي. وعنها يقول " الاعتقال تجربة ألهمتني الكثير، ولكن بدون ذاكرة وحب، لا يمكن نقل كل ذلك إلى عمل فني مبهر. أنا كاتب يفضل إستعراض مهاراته، وقصصي كانت مسرحا لما دار داخل أروقة السجون، ولهذا السبب مزّق الأميركيون قصصا لي، وتداولوا كتابات لي بعد ترجمتها من قبل سيرجنت اسمه تشاد من أصل لبناني".
سيد بوش: ليس في نيتي النظر شزراً الى "تمثال الحرية"
وفي سجنه(2003-2006)، وجّه الخفاجي رسالة الى الرئيس الأميركي جورج بوش، تكشف الكثير عن تلك المحنة، ومنها نقرأ:
"صباح الخير سيادة الرئيس. انا محسن خريش عبيد الخفاجي اقدم معتقل عراقي في معتقلات العزلة في اقصى الجنوب العراقي، حتى أقدم من رجال قائمة الخمسة والخمسين (يقصد قائمة ابرز قادة نظام صدام المطلوبين اميركيا). أخذني حسن النية اليكم، وتصورت انني سأجد ملاذاً امنا،ً فما وجدت سوى الأصفاد وطقطقة العظام.
يعرفني العالم بانني لا احترف شيئاً سوى الكتابة. واحيانا انا رسام وخطاط جيد، وجليس اسطوري في مقاهي المدينة حيث انني من سكنة اور التي قربها جلست آلهة الحرف ترسم حلم الحضارة لتولد. لست متزوجاً ولا أملك في هذا الوطن شبراً، عدا غرفة في بيت ورثته من أبي مع اخوتي تتناثر فيها الكتب واسطوانات مضغوطه لأفلام اكثرها منتج في هوليوود. فانا أحب الغرب ليس لانه يرتدي الخوذة ويذهب بعيداً الى بلدان يريد ان يؤسس فيها ديمقراطية هيمنغتون. بل لان همنغواي ووالت ويتمان وشارون ستون وجون ابدايك وماكليش ومارلين مورنو يبعثون فيّ شهوة لأكون اكثر سعادة من صاحب مطحنة او ناطحة سحاب.. ولهذا كل حياتي هي طوفان في حلم، وعدا هذا قد لا اعرف شيئاً غير صحبة الكتاب والترجمة والبيضة المسلوقة".
ويوضح الخفاجي في رسالته الى بوش، "انني لم ابصم يوماً ما على ورقة انتماء الى اي حزب سياسي، عدا انتمائي الى اتحاد الأدباء والكتاب في بلدي... أنا لست الفوهرور ولا وطبان (اخو صدام غير الشقيق) او علي كيماوي، ولست موسليني او بن لادن. انا كاتب قصة ومحتسي شاي جيد، وصانع حلم ورغبة وبها قدمت إليكم عساكم تستفادون من رؤى مخيلتي لإسقاط بعض اوهام المجيء الى العراق..وفجأة وجدت نفسي مرمياً في قفص من الأسلاك الشائكة".
وينهي رسالته الى بوش بقوله "لا أريد ان أصف ايام الإعتقال الأولى فهي اكثر من محنة غير انني بعد كل هذه الأزمنة الطويلة والتي اكتوت بها عذابات روحي لأُقاد الى شيخوخة مبكرة.. اقول انا بريء سيادة الرئيس. لا امتلك من الذنوب ما أُسيء به الى البنتاغون والصقر النيفادي وليس في نيتي النظر شزراً الى تمثال الحرية".

من الجمالي الى الوثائقي
تلك التجربة الأقسى قادته الى قصص "هل تعرف كيث موبين؟"، إشار فيها ابن أور، التي ولد بالقرب منها، العام 1950 إلى "نهاية المرحلة الجمالية أو اكتمالها، والعودة لمرحلة القصص ذات المضمون الوثائقي الخالية من الزخرف والمعبرة عن زمنها"، زمن "العراق بعد الغزو الأميركي" والتي تعطي صورة صادقة لمرحلة مضطربة من حياة بلاده وجتمعه، بل هي "تعنى بالصراع في اعقد مراحله"، كما يوضح في حوار صحافي: "دفعتني إلى كتابتها أمور كثيرة.. منها رغبتي في تخليد هذه المرحلة لكي تطلع عليها الأجيال القادمة، و أن أحول هذه التجارب إلى أعمال قصصية. ولكنني لم اكتبها إلا بعد خروجي من المعتقل بعد أكثر من ثلاث سنوات في بوكا و أبي غريب".
ويقول القاص والكاتب، نعيم عبد مهلهل الذي أرتبط مع الراحل محسن الخفاجي بـ"صداقة مثل تلك التي كانت تربط جلجامش بخلّه أنكيدو": "أنا وثلاثة أصدقاء أول من كَسر حاجز الخوف من المحتل، وزرناه في معتقل بوكا حيث بقي لثلاثة سنوات سوريالية .. وبعدها بقيت أكتب من اجله نداءات حلم حريته، وقد بح ّ صوتي وبمساعدة من رهط طيب كريم من الأصدقاء والمثقفين في كل أرجاء الدنيا ، وأسسنا له في موقع "الحوار المتمدن" موقعا خاصا للمساندة ..ثم أطلق سراح محسن ليعود الى مدينته السومرية يغفو مع فنتازيا نصوصه واحلامه المستحيلة وتصريحاته التي هي اسرع من طائرة اللوفتهانزا بألف مرة".
و"احلامه المستحيلة"، كانت زاده شبه اليومي في العامين الاخيرين، فقد ظل القاص والروائي والمترجم محسن الخفاجي، يحتفي بالجمال ليرسم مسار غيابه .. ينشر يوميا، على صفحته في "فايسبوك"، لوحات ومقاطع من افلام أثيرة، وصور نجوم سينما محببين له، كان يبالغ في هذا، كأنه يحلم، او يعيش حلما متواصلا، كان يبحث عن طريقة ما لمحو تجاربه الواقعية: سجنه على يد الأميركيين، اثار الراهن القبيح الذي يخنقه، والإهمال الانساني والثقافي.

* نشرت في "الحياة"



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM