نقد أدبي  



صاحب "الكوميديا العراقية"، الشاعر موفق محمد، حين ترتاب منه المؤسسة الثقافية

تاريخ النشر       08/12/2014 06:00 AM


بغداد- علي عبد الأمير*
في الاحتفاء الذي نظمته "النقابة الوطنية للصحافيين العراقيين" و "التيار المدني" في الحلة (مركز محافظة بابل)، لشاعر المدينة الأبرز موفق محمد، أشار صديق عمره، الروائي والباحث ناجح المعموري، الى ملمح بات يلخص الكثير من مسار قصائد الشاعر: " صوته الحاد والقوي في مواجهة طغاة العالم".
ويقع كثيرون من نقاد الشعر العراقي المعاصر وباحثيه، في خطأ فادح، حين يؤشرون تلك النبرة الغاضبة في شعر صاحب ديوان "عبدئيل"، كونها ابتدأت بعد العام 1991، مع المصير الفجائعي الذي لاقاه ولده خلال الانتفاضة الشعبية ضد نظام صدام حسين، وراحت تنضج مرارة وحزنا، طوال سنوات الحصار وأهواله، فتلك النبرة، بدت حاضرة في شعر محمد، منذ إن كان صوتا متفردا بين ابناء جيله الستيني، وتحديدا في قصيدته الاشهر "الكوميديا العراقية"، التي نشرت العام 1970 في مجلة "الكلمة"، الرائدة في حداثة الادب العراقي. وفي تلك القصيدة التي بدت على خلاف واضح مع تيار "اليقين الفكري" و"التفاؤل الثوري" الذي حاول النظام البعثي اشاعته في اوساط الثقافة العراقية، منذ وصوله الى السلطة 1968، يمكن ملاحظة الشك "الفردي" بوصفه مقابلا لذلك "اليقين" الجماعي:
أيها الجيل الذي يبكي على الرمل خطاه
أيها الجيل الذي ينتظر الريح التي تحمل
للارض آله
ولم يتوقف الشاعر موفق محمد، عند محاولة زعزعة السائد الفكري، بل قارب صورة البلاد الحقيقية، حين قدمها بملامح ما يكتبه العابرون في "دورات المياه":
"إكتشفت فجأة / وعلى جدرارن دورة المياه / كيف كان العراق/ في العشر سنين الاخيرة"، وراح أبعد من هذا، إذ نالت كوميدياه من الخطاب "الثوري" للسلطة الحاكمة:
"ألمح العراق مختبئا / ومرتجفا / تحت عناوين الصحف المحلية / يهدد الخونة بالقتل / وأمريكا بالدمار / والبائسين بالسعادة".
وعلى جاري التمرد السائد في ثقافة جيل الستينات عراقيا وعربيا وعالميا، فالشاعر لم يوفر حتى الثوابت الدينية " حمامة خضراء / تنتقل من جثة الى اخرى/ تلتقط الكلمات / من افواه الموتى وتحملها الى نخلة يبكي تحتها عيسى ابن مريم/ ولاتساقط عليه رطبا جنيا ".
وفي "الكوميديا العراقية" لم يتوقف شاعرها، عند سؤال: أيكتبها موزونة ام نثرا؟، ففيها من الإثنين، بل هو اجترح فيها، ما سيكون لاحقا، اسلوبا خاصا به: العربية الفصيحة الى جانب العراقية الدارجة، وبأشكالها الشعرية الشعبية السائدة: "الابوذية"، "الزهيري" وغيرهما. 


موفق محمد: "على بعد موجتين من نهر الحلة"

وعن صاحب ديوان "غزل حلي"، وضع الروائي والباحث ناجح المعموري، كتابا حمل عنوان "قبعة موفق محمد"، درس فيه "الجانب الشعبي" في الشاعر "لأنه شاعر مصوّت ويومي، تتسع قاعدته بين الناس، وعلى مختلف المستويات"، ومع انه من النادر ان تجد شاعر عراقيا معاصرا، لا يذكر الا وتذكر معه مدينته، لا يذكر موفق محمد الا وتذكر معه الحلة التي ولد فيها العام 1948، وهو يقول عنها "لم أكن شاعرا في يوم ما ... فانا راو لشاعرة اسمها الحلة"، معللا " انا احب الحلة لأني ولدت على بعد موجتين من نهرها. "
في سنوات الحصار المريرة، كان يقف الشاعر، مدرّس اللغة العربية لأجيال عدة، على احد ارصفة مدينته، بائعا للشاي، مناديا بصوت عذب بين الناس ومن اجل عذاباتهم، و"كانت قصائده تستنسخ وهي تنتقل من بيت الى آخر، ومن يد الى أخرى وكأنها منشورات سرية. كان يكتب الشعر في هواء ملوث، ينفث بقايا الألم فيتلقفه بقية الناس الذين يبحثون عما يعزّي آلامهم. وقد استخدم سلاح السخرية الضاحكة، وكأنه يريد ان يخفف من حجم الألم، او يحاول ترطيبه وعدم الإنكسار أمامه".
وفشل من راهن على ان الشاعر موفق محمد، "ثأر شخصي" مع نظام الحروب والقتل والحصارات، فهو كتب في هجاء "العراق الجديد" ما كتبه في "القديم" بل زاد عليه احيانا، حين رثى احلامه بالخلاص من كوابيس الديكتاتوريا، اذ وجد الحرية وقد صارت رعبا ونسقا فكريا وثقافيا بائسا يورث الخراب والفساد والموت الرخيص: "راوح مكانك ياسلام/ من نصف قرن يلهث الإنسان في جسدي ويعوي/ لم يذق طعم المنام/ راوح مكانك يا سلام، واسمع صهيل الموت يشهق في يديك وفي عيونك/ لا تخف فالموت خُط على جبينك، واستدر للخلف وأزحف في الظلام ".
"لا حرية تحت نصب الحرية"
ذلك النسق الذي لا يتردد الشاعر عن تسميته "سافلا"، ظل على مسافة هجاء منه، "على الشاعر ان لايقترب من السلطة مهما كانت هذه السلطة"، بل خصّه بقصيدة صارت مبعث غضب رموز السلطة الحاكمة في العراق اليوم، حد انهم قرروا عدم دعوته الى اي مهرجان شعري وثقافي، لا سيما بعد تحويله المنبر، منصة نقد لاذع، وهو في حديث الى "الحياة" يؤكد هذا الغضب الحكومي منه، فيقول " اوصلوا لي ما يلي: كيف لنا ان ندعوه الى منبرنا، ومنه يقوم بشتمنا"؟، في اشارة الى قصيدته الاكثر تداولا في بلاد السياب، وفيها "لا حرية تحت نصب الحرية/ ولا خمرة في كأس أبي نواس/ والمدارس بلا صفوف ولا موسيقى ولا كركرات.. هم يرفلون بسياراتهم المظللة رباعية الدفع/ ومكاتبهم المبالغ في أناقتها/ ومدارسنا تزدوج على أطفالنا مثنىً وثلاثاً ورباعاً"، ليصل الى "أنسَ البلاد/ فما البلادَ؟/ إزاء تنور الطوائف/ أنسَ البلاد التي أرضعتك حليب النخيل/ ورأيت أنهارها تسيل مآذناً وكنائس/ وبغداد التي تجري الأنهار من جدائلها/ هي الآن معصوبة العينين واليدين/ وأنا مدمنك ياعراق/ لا أتوازن في الصباح/ إلا حين أشرب كأسين من شمسك/ وأتوضأ من رائحة قداحك/ وأصحو في قاعة الدرس/ أتهجى حروفك ياعراق/ فتبتسم الأسئلة/ وأنجح في الأمتحان".
وإذ يحنو على بلاده، فهو يقسو على الحكام الجدد "الديكة الهابطين علينا/ محفوفين بالملائكة.. من عواصم الثلوج.. ومن مزابل السيّدة.. ومن صناديق القمامة في قم.. للمعلم وفّه التبجيلا وهم يحملون معهم وظائفهم الألهية"، في اشارة الى كونهم جاءوا البلاد بعد وجودهم خارجها في مدن الشمال الاوروبي وعواصم مجاورة (منطقة السيدة زينب بدمشق)، ومدن "مقدسة" (صناديق القمامة في قم).
ومثلما كتب ساخرا، حانقا وحالما قبل اكثر اربعين عاما قصيدته "الكوميديا العراقية"، كتب وفق هذا المزيج العاصف من المشاعر والرؤى، قصيدة " لا حرية تحت نصب الحرية":
اللهم إنا نشكو إليك سوء ساستنا/ فقد قتلوك فينا/ وها هي دماؤك../ تنز من أسماعنا وأبصارنا/ وهم ينظرون إلينا مبتسمين.. فإلى من أرفع شكواه؟ سنصنع من النحيب الذي يولول في صدور أمهاتنا.. ناياً/ يصل إلى عنان السماء/ لنُسمع شكوانا إلى من يهمه الأمر" ليستدرك اخيرا ساخرا من كل شيء في البلاد، حيث لا حياة حقيقية في بلاد الرافدين والخصب:
"فما زلنا في المربع الأول/ واضعين الحصان خلف العربة/ وعندما نتفق أو نختلف..
لا فرق/ نقتل الحصان والسائق../ ونحرق العربة/ ويقتل بعضنا بعضاً
في الفيلم العراقي الرهيب (جئنا لننتقم).. فمن ينتقم من من؟/ ولا رابح في العراق/ سوى المقابر".
 
* نشرت في "الحياة" 6-12-2014



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM