نقد أدبي  



قاسم عبد الأمير عجام: ريادة عراقية في ثقافة وسائل الاتصال

تاريخ النشر       08/12/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير*
لم يدرس على نحو جدي، توجه ثقافي انبرى له، مبكرا، الناقد والباحث الراحل قاسم عبد الأمير عجام، هو نقد التلفزيون، فرأى "الشاشة الصغيرة" كونها وسيلة اتصال شعبية واسعة، ونتاج ثقافي سيكتسح الاشكال التقليدية للمعرفة، اعتمادا على قدرته البصرية، وتمكنه من بث كم هائل من المعلومات والاشارات، بما لا تتوفر عليها وسائل الانتاج الثقافي السائدة في الوقت الذي بدأ فيه الراحل توجهه نحو شكل كتابي، اسماه "النقد التلفزيوني"، وتحديدا اوائل سبعينيات القرن الماضي.
ولأن الثقافة العراقية والعربية بوجه عام، اسيرة الانبهار بالتيارات الغربية، فقد راحت تتحدث كثيرا، في ثمانينات القرن الماضي، عن براعة النهج الفكري والنقدي الذي شكّله مارشال ماكلوهان، المفكر والكاتب الكندي الدراس لوسائل الاتصال الجماهيري الاليكترونية، ومنها التلفزيون، لجهة سيطرتها على حياة الناس، وتأثيرها الكاسح على أفكار الناس ومؤسساتهم المجتمعية والثقافية، وعلى امتداد المعمورة.
والراحل، الذي اغتالته قوى الظلام "البعثسلفية" في 17 ايار 2004، وبعد ايام من توليه مسؤولية "مديرية الشؤون الثقافية" العراقية، لم يتوقف في نهجه عند الاطار النظري لـ"النقد التلفزيوني"، ولم يكن مولعا به، على اهمية ذلك ووضعه اوراق بحث جدية في ذلك، بل ذهب الى الميدان الحقيقي لوسيلة الاتصال الجماهيرية الواسعة الاتصال، انتاجا وقراءة لمفاتيح العرض الفني ودلالاته الثقافية والاخلاقية الاجتماعية، فضلا عن الجوانب الجمالية المهذبة للمشاعر والمدارك.
 
المسؤولية الاجتماعية - الثقافية لوسائل الاتصال
فهو يرى ان "اهتمامه بوسيلة حية من وسائل تطوير العمل التلفيزيوني، لا من خلال ما يقدمه النقد من ملاحظات تتعلق بالانتاج التلفزيوني فحسب، وانما وبدرجة مماثلة الاهمية من خلال توسيع سبل التفاعل بين الجمهور المتقي والمادة التلفزيونية"، منوها الى ان "النقد التلفزيوني بهذا المعنى يعييد الانتاج او العرض الذي يتناوله الى مائدة النقاش، مهيئا له فرصا اضافية للتأثير لاسيما اذا نجح النقد في الامساك بمفاتيح العمل الذي تناوله، اضافة لذلك، تحفّز المتابعة النقدية المستمرة للانتاج التلفزيوني المزيد من البحث في سبل تطوير العملة الفنية وتكشف من حضور الفنانين في وجدان جمهورهم، وبذلك توسّع من دائرة تأثيرهم فيه، وبالمقابل يسعى النقد التلفزيوني الى تطويق ما قد يكون لبعض الاعمال الفنية من اثار سلبية على ذوق المتلقي او على ما نريده له من روح ايجابية متفتحه على افاق المسؤولية الاجتماعية".
ومن هذا الجانب الاساسي: المسؤولية الاجتماعية، يؤكد الراحل قاسم عبد الأمير عجام، على جوهر الثقافة، بوصفها نشاطا اتصاليا واجتماعيا محرضا على قيم الخير والعدل والجمال، فهو بذلك لم يؤكد اهمية النقد ثقافيا وفكريا وحسب، بل قدم تطبيقا حقيقيا لفكرة "المثقف العضوي"، ولكن وفق منظمة معرفة منفتحة على التطور العلمي والانساني، انطلاقا من تلمسه قيمة الانجازات العلمية في ميدان وسائل الاتصال وثقافتها.

التصميم الذي كان يرافق مقالاته بالنقد التلفزيوني في صحيفة "طريق الشعب"

وفي مجال التأثير الايجابي للقيم النقدية التي رسختها مراجعاتها وكتاباته، يشير الراحل في واحدة من اوراقه، الى "الحفاوة التي استقبل بها نقدنا الاعمال الدرامية الناجحة، لما حملته من قيم متقدمة فنيا وفكريا سواء كانت اعمالا عراقية كـ"الذئب وعيون المدينة" و"النسر وعيون المدينة"،  او عربية كـ"الشهد والدموع" او "حتى لا يختنق الحب"، فالواقع ان الاعمال الفنية الجيدة فرصة النقد الذهبية لتحقيق اهدافه، اذ تتيح للناقد مناسبة تطبيقه لتأكيد العلاقة الحميمة بين جماليات الفن وتقدم الفكر، فـ"في الذئب والنسر" مثلا، كنا نتابع نضح الشخصية الانسانية وامتلاءها بعافية روحية كلما تقدمت خطوة على طريق التحرر من الخوف والوعي بقيمتها وحقوقها البشرية، كما حصل لرحومي ولمرزوق ورجب، وفي "الشهد والدموع"، كانت تتصاعد وتتأكد حقيقة التفاعل الحتمي بين الخاص والعام، وتلك وامثالها موضوعات تغني النقد التلفزيوني بمضامين تكشف عن جماليات انعكاس تلك القيم في لغة الفن تأليفا واخراجا".
 واللافت في ريادة الراحل قاسم عبد الأمير عجام، عبر بحثه النقدي المتواصل لوسائل الاتصال المعاصرة، والتلفزيون في مقدمها، انه لم يتوقف عند النتاج الدرامي التلفزيوني، على اهميته، "اذا  كانت الدراما التلفزيونية هي الاكثر اجتذابا للنقد فلأنها في الواقع الاكثر تأثيرا في الجمهور، ومن دعوتنا المستمرة لاغنائها بالاحلى والاعمق فنا وفكرا، غير ان الموقف النقدي السليم يتطلب التأكيد على تكاملها مع بقية انواع الانتاج التنلفزيوني من برامج او منوعات"، فهو كتب في نقد برامج علمية وثقافية، كالبرنامج الرائد في التلفزيون العراقي " العلم للجميع"، وكتب ناقدا وبقوة، موجة الاسفاف في العروض الغنائية والموسيقية التي توجتها موجة "الفيديو كليب"، وتحديدا في مقاله البارز الذي استخدم فيه مصطلح " القطعان الراقصة"، في اشارة الى الابتذال والرخص في استثمار الابهار الجسدي الانثوي، الذي تعتمده الاعمال الغنائية والموسيقية السائدة.

نور النقد وظلام المشهد السياسي والثقافي
ويعود عجام لمراجعة قيمة ما كان يتصدى له من نشاط نقدي، فيكتب في ورقة اخرى "كثيرون يسألونني لماذا غاب نقدي للانتاج التلفيزيوني الذي ثابرت عليه لسنوات متواصلة. وسعدت، وعذرا للانا، وانا أصغي لتأثير ذلك النقد فيهم وفي كيفية تلقي المادة التليفزيونية والدراما منها خاصة، وفي التفاعل مع رسالتها. وليست هي غبطة من يفاجأ بما لم يتوقع من تأثير انتاجه، فلقد كنت منذ أول مقال  نشرته في مجلة "الاذاعة والتلفيزيون" عام 1972 معرّفا باهمية محاورة المادة التلفزيونية، واثقا ان التعامل النقدي معها هو تعامل مع أكثر وسائل التأثير التوجيهي فعالية وأوسعها جمهورا. وان النقد اذ يتوجه لدراسة الانتاج التلفيزيوني، فإنما يخوض في احد ابرز مكونات النمط الثقافي السائد في ايه مرحلة. وهكذا كان، ولم يزل، مهما متابعة الدراما وبرامج المنوعات التلفيزيونية والافلام السينمائية التي يبثها التلفزيون ومواده الثقافية والادبية والعلمية، وحتى برامج الحوار الفني والسياسي وبرامج التنمية، وما زلت عند ذلك الايمان، الذي سبق ان أكدته ببحث "النقد التلفيزيوني في المشهد النقدي العام" وقدّم الى "ملتقى السياب الادبي الثاني 3-1 اذار 1990 "في جامعه البصرة".
وهو اذ يركّز على المادة التلفزيونية لجهة ان "تأثيرها في مجتمع كمجتمعنا، أشد وأخطر مما هو في مجتمع متطور اتسعت فيه مصادر الثقافة، كالمجتمع الغربي"، لا ينسى الإشارة الى ما كتبته الناقدة الاميركية، ماري برات، حول "التوجه نحو مصادر الثقافية الجماهيرية، بوصفه من مهام النقد الملحة، وتخص التلفزيون بالذات، معتبرة ان التوجه نحو الاعمال الادبية التي تتعاطاها النخبة، تفريط بفنون فعالة تركت بلا نقد، بينما يبقى النقد الموجه للنخبة بدون قراء".
وفي سنوات الضنك العراقية التي امتدت حصارات رهيبة، داخلية وخارجية، كان يرد عجام على سؤال "لماذا غابت متابعتك للتلفزيون ياهذا وتحديدا من سنتين تقريبا "؟ فيرد على المتسائل "انه ببساطة الحصار اياه !  اجل وتلك الحقيقة، منذ ان سرى الانهاك الاميركي يفعل فعله في الطاقة الكهربائية في بلادنا، اذ حرمتني انقاطاعات الكهرباء والاف المشاهدين من متابعته: المسلسل التلفزيوني بشكل كامل. دائما هناك حلقات اغرقها الظلام، ودائما هناك حلقات لم ارها من برامج اسبوعية او ندوات طارئة تابعت نصفها او مجرد عنوانها واذا بجناح الظلمة يلف الشاشة ومن يتبعها ومن يقطع انفاس المتكلمين. ولست ممن يرى ان من الممكن القول برأي في عمل دون بلوغ نهايته مهما كانت مقدماته من الوضوح".
ويزيد في قوله " كيف يمكن الكتابة، وصحفنا قد ضربها عصف الحصار إياه، فضيّق على حقولها الثقافية، فصار لزاما اختصار موادها، والنقد التلفزيوني بطبعه حديث متشعب في القصة والانارة والموسيقى والتمثيل و الاخراج افليست هذه احدى (مآثر) ظلامية (مادلين اميركا اولبرايت)، اذ تلحق المتابعة الاذاعية والتلفازية بالمجلات العلمية والكتاب ومصادر الثقافة الاخرى التي منعتها عن العراق ؟؟ فيا لخسارتي الفاجعة قبل خسارة ذلك المتلقي، يالحرقتي بين نار الاحساس بالمسؤولية وضيق الخير وسوط الظلام ! فلتكن هذه الكلمة ايضاحا لمن ظنّ ان انقطاعي عن النقد التلفزيوني زهد فيه او احساس بلا جدواه.. هو وعد اذن بالعودة الى مائدة الحوار مع التلفزيون وجمهوره وعسى ان نجد في نور الحوار المثمر.. نور النقد ما يخفف من وحشه ظلمة يثبتها نفاق العصر الاميركي".


* نشرت في "المدى"




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM