نقد أدبي  



(مدينة النحاس): بحث عن بغداد ... مشغول بلهفة وتوق وألم

تاريخ النشر       26/12/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير*
     من حكاية ما أسندها فوزي كريم الى مرجعية تراثية في "مروج الذهب" للمسعودي، جاءت (مدينة النحاس) التي وجدت صدى لها في نفس الشاعر، وكوّنت شذرات وعيه وشهدت تفتح حياته والغبار الذي تراكم على كتفيه واغنياته واحباطاته، بل هي لم تزل تشكل جملة توقه وحنينه، انها بغداد التي وجدها ذات زمن تبتعد عنه مثلما تبتعد عنه كل مرة "مدينة النحاس"، فهي تظهر له في إحدى طبعات "مروج الذهب" دونما شروح ولا تفاصيل ولا هوامش، ومرة يجد الفصل الذي يضم حكايتها ناقصاً او منتزعاً، هكذا هي تراوغه بحكايتها الغامضة السحرية مثلما راوغته مدينته الأصلية.

تخطيط للشاعر فوزي كريم

     انها مقاربة معقولة وموضوعية فنياً تعويضاً عن "بحث عابث" وإقامة نوع من التراسل المنهك الخفي مع مدينة حُرم من تفاصيلها الشاعر وعطلت فيه ذلك الشغف بالمأثورات المعيوشة الحية والغنية بكائنات رقيقة جعلت روحه "لائبة" دوماً: "في يوم السفر الذي كان شديد التكتم والسرية احتفظت بالطبعة الحجرية من (مروج الذهب) بين طيّات الثياب في الحقيبة وكأنني اودع دواء للطواريء وغادرت المنزل فجراً".
     في مدينة النحاس يطوي النسيان الحكاية فيما المدينة – المعيوش ظلت ناتئة الذكرى: "الماضي حساسية مفرطة، مستعد أبداً لتعزيز حضوره الحاسم كإستدارة كلية لا يشكل الحاضر او المستقبل فيها إلا خطوات مترددة في نقاط التماس"، ترحيل المدينة الى ذكرى – الماضي لم يقدم عليه فوزي كريم لمجرد سجن الحياة في مدينته وتنميطها، بل لإقامة "نقطة التماس" في تأويل الماضي، الحاضر، المستقبل، انه يغني ذهن وصفاء سريرة يسمي ذاكرة الماضي كحصيلة ذاتية وخبرة عيش واكتساب طرق عنيف على تلك الرؤية، وما الحاضر إلا طرق عنيف على تلك الذاكرة المتحصلة فيما تبدو "كل الأناشيد والشعارات للمستقبل وهي تتضمن أمراً للحجز على الذاكرة واعتقال الإلتفاتة الحانية الى الوراء"، هكذا يمتزج الوقت بتفصيلات تدلل على نقطة اللاعودة التي وصلها الشاعر ثم ما انتهى اليه من قرار حيث القطيعة ومشاهد الوداع أم مولولة سعف النخيل الساهم في فضاء يومي شبه مشتت، مشهد الصالحية حيث نقطة الإلتقاء مع يوميات مكانية وتفاصيل ستغيب.
عناية كهذه بتوصيفات ماضوية وإحالتها الى مرجعيات حكائية ثم تقديمها حسب التقاطات شخصية يضعها فوزي كريم تحت باب أول وبعنوان "الخروج"، فيما الباب الثاني كان بعنوان "إستعادات" أظهرت علاقات متكونة للشاعر بالمكان الجديد الذي وصله مهاجراً وطرق نفاذه الى النفوس، فيما التلميحات الأولية للعنوان تحيلنا الى توقع "إستعادات" للمكان الأولي في بغداد والحنين اليه، فوزي كريم هنا يمزج بين "الذاتي والموضوعي" بطريقة موفقة فنياً تُبعد عنه ضغط تلك الثنائية لا بل انه ينقلنا الى متن حكائي يجعل بعض فصول هذا الباب أقرب الى القص منه الى نمط كتابي استعادي ذاتي ويظل فصل "موت الحصيري"، اكثر فصول الكتاب تدفقاً وإشتعالاً، فالشاعر عبد الأمير الحصيري صاحب السيرة المشتتة بين الصعلكة والفقر والسياسة وبين قصائد البيان العربي القديم والصنعة اللغوية المسبوكة والروح المتكمتة كان صديقاً لفوزي كريم ولفرط ما رقت تلك العلاقة كتب قصيدة عن عبد الأمير الحصيري اودعها تصوراته لا عن صديقه حسب بل عن سيرة جيل واضطراب وقائع واحترام رؤى.
"كم رأينا كما يرى المأخوذ تحت معطفه الفضفاض جيلنا جميعاً فكأنما هيأت أرض النجف السرية لجيل انكرت عليه الأقدار العابثة ان يكشف صراحة عن شهقة الأمل واليأس".
     الموت – المنفى، الإنتقال من طور الى آخر من حياة مشتتة الى غياب مكتمل .. ومن عناءات وضيق وحرية تصبح احتمالاً ضئيلاً الى مفاجآت المنفى المتسع هكذا ينقلنا فوزي كريم حين يربط بين رحيل عبد الأمير الحصيري المبكر وبين منفاه، المنفى الذي سبق الجميع في الذهاب اليه، فوزي كريم إذ يستذكر عبد الأمير الحصيري فهو يستذكر الأمكنة والحكايات التي بدت مترابطة معها فنجد خيوط الحنين وهي تنسج "مقهى المعقدين" المكان الأثير لمثقفي جيل الستينات في العراق و "حانة غاردينيا" و "قاعة اتحاد الأدباء" غير انه لا ينسى أسم "صورة قلمية" في غاية الحميمية لشارع الرشيد وحسب رؤية تخص عبد الأمير الحصيري أيضاً!.
     ومثلما كان يرى في الماضي خبرات حياته متراكمة يكاد المستقبل يضيق ذرعاً بدأبها وصبرها ها هو في الباب الثالث يذهب الى الموضوعة ذاتها وبتشخيصات أكثر تحديداً: "سمعت أحدهم يشيد برفاه العمارة هذه الأيام، المدينة لم تعد هي ذاتها، أصبحت مدينة المقاولين لا أسرار فيها كما تعرف، الأسرار تقتصر على المدن التي تنمو في غفلة من التاريخ، هذه المدينة نمت على هذه الشاكلة فنضجت دروبها وأزقتها وأسواقها في الظل وفي العزلة".
     ها هي مدينة النحاس، تكشف أمامنا اصابع ماهرة لفوزي كريم، تلك التي تفرك الصدأ عن ملامح تلك المدينة ولم يقع في تفاصيل مهمته هذه في حبائل (النوستالجيا) المرضية، بل ذهب الى المكان بمعطيات قائمة على فكرة توليدية رؤيوية، هي التي احكمت علاقته بعناصر المكان وانسانه وسلطته، منذ ان كان هناك في عمق التفاصيل ولم يكونها وليدة علاقة المنفى، الفكرة هذه الى جانب التماعات الشاعر في اللغة والتكوين "لا تستشف من كلامي نبرة غضب ولا تجتهد في ان تجعل مما أقول صوت احتجاج وصرخة غضب، تخل عن التزوير الذي تطامنا عليه وحدق في لغة اليأس"، هذه اللغة وقرينتها الفكرة تحيلنا الى مهارة في الكتابة (النثرية) عُرف بها الشاعر فوزي كريم فمن ينسى كتابه "من الغربة حتى وعي الغربة" الصادر أوائل السبعينات؟
     "مدينة النحاس" تنقيب عن كائن طمره الرعب تحت طبقة من الخيبات لذا جاد الكشف بطيئاً ومشغولاً بلهفة وتوق وألم.

الكتاب: مدينة النحاس
الكاتب: فوزي كريم
الناشر: دار المدى – دمشق

* نشرت هذه القراءة للكتاب في مجلة "المسلة" 2001 ضمن ملحق خاص احتفاء بمؤلفه



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM