نقد أدبي  



براعة الصنعة الادبية في (من لا يكره بغداد)

تاريخ النشر       14/06/2015 06:00 AM


بغداد- علي عبد الأمير
قلة هي الكتب التي تقدم معطياتها في نقد الافكار والسياسة، ضمن نسيج من براعة الصنعة الادبية، بل ان الإمعان في احتقار "جماليات التعبير" صار لازمة لمعظم ما يتصدر واجهات المكتبات العربية اليوم، هذا اذا ما وضعنا جانبا، عسر الكتابة وحفنة الاخطاء النحوية والاملائية حتى من جانب اكاديميين باتت شهاداتهم العلمية قرينة بالكم الهائل من غثاثة الكتابة وحشد اخطائها. ومن بين القلة التي تعاين مهمتها الاساسية في التعبير الراقي عن الافكار وتوصيلها بطريقة راقية الى المتلقي، يأتي كتاب "من لا يكره بغداد"، الصادر حديثا عن "دار نون"،  للكاتب والصحافي احمد المهنا الذي غادر الحياة فيما كان كتابه على وشك ان يرى النور ليكون الثاني له بعد الاول اللافت "الانسان والفكرة".
 
براعة الصنعة في كتاب المهنا المسكون بـ"احلام ما بعد الديكتاتورية" في العراق، تبدأ من العنوان المأخوذ بالاصل من عمود صحافي كان بين اواخر ما نشر في بلاده التي تولّه بحبها، وقبل اكتشافه الصادم لتفشي السرطان في خلاياه الدماغية، فالعنوان يوقع القارئ في حيرة، فهل يعقل ان يتحول "المحب الكبير" والمفتون بالتفاصيل الانسانية الصغيرة، وبالحنو على مدينته مهما بدت قاسية، الى "كاره" لها؟ 
لكن أحمد المهنا هنا، وبحسب ما كتب عنه، صديق عمره، عامر بدر حسون، تقديما للكتاب "هو من سيبادر ويأخذك للخلاف معه، فهو يستخدم مقالاته كمعول يحاول أن يحطم به الأصنام النائمة في العقول، كل مقالة تحاول أن تزعزع قناعة ما، وأن تقلق نومة هنية في عسل اليقين العقائدي والاجتماعي والسياسي والفكري، ولا شيء يثير الخلاف والحفيظة والخصومة مثل محاولة 
تحطيم أصنام العقل"
والكتاب، برغم ان الكثير من مقالات فصوله الستة جاء قراءات ناقدة لمآلات العراق الرهيبة بعد العام 2003، هو بالضبط محاولة في "تحطيم أصنام العقل"، لجهة انه يجاهر بنقيض ما تأتي عليه "الثوابت الوطنية" بتكثيف عال وصفاء فكري نادر، وبصوغ ادبي لا يخفى جماله القائم على عبقرية البساطة: " في 12 عاما تسلم (الملك ) فيصل الاول العراق عدما، وسلّمه دولة تسير على سكة السلامة ضمن دول عصبة الامم، وفي 35 عاما تسلم البعث العراق عمارة وسلّمه خرابة. الاول اشتغل على استظهار انبل ما في الناس، والثاني استخرج أشرّ ما في الناس". اننا فعليا حيال كتابة مختلفة، بل "معرفة مكثفة وعميقة تحتاج للتأمل"، ويجد القارئ نفسه "امام كتابة اصيلة لا تقلد أحدا. ولا تسعى الى تقديم فكرة "جماهيرية" أو شعبوية".
مقالات المهنا الناقدة، تحترم العقل عبر "ملاحقته يومياً بالأسئلة والشكوك"، ولكن بلا لغة مقعرة، ودون عسر في الافكار والسبك التعبيري، وفي حين نقرأ في الكتاب، إن "الديكتاتورية حفلة مطاردة محمومة للبشرية المحترمة. الديكتاتورية تموت وسط الناس المحترمين، وتحيا في بيئة المرذولين. قد لا يسرق الديكتاتور فلسا واحدا. لكنه يسرق المجتمع كله ويهينه، عندما يسمح لحاشيته، وللمسؤولين في دولته بالغرق في الفساد. يراقبهم، يجمع الملفات حول نهبهم وحول كل مظاهر خروجهم عن القانون فبذلك يضعفهم ويتحكم بهم، ومن خلالهم يتحكم بالشعب"، فان الكاتب وفي السطور القليلة اعلاه، يوجز افكارا يطنب في الحديث عنها باحثون وكتاب، لا يترددون عن اضفاء 
"الحصافة" على هذر ما يكتبون، عبر استعارات واقتباسات تبدأ ولا تنتهي من مترجمات "الحداثة" وما بعدها ايضا.
 
                              
 
مقالات المهنا، حتى في علو ادبها الكتابي، هي "حكي" سلس مع الناس وعنهم واليهم، بل ان متون معظمها تأتي مستندة الى حوادث انسانية صغيرة، هي مما عاش وعرف ودرس، منذ بكالوريوس اللغة العربية وآدابها بتقدير "امتياز" من كلية الآداب – الجامعة المستنصرية عام 1978. ثم اضطرار الهجرة من العراق عام 1979. والعمل في الصحافة في منابر عدة بين بيروت، دمشق، نيقوسيا، لندن، أبوظبي، بغداد التي عمل فيها مديراً تنفيذياً لقناة "الحرة – عراق" 2004 -2007، ثم تأسيسه وترأسه تحرير صحيفة "العالم" البغدادية عام 2010. 
لكنها ايضا كتابة عن "مسؤولية المثقف"، وتحديدا من بدا مصنفا، برغبة منه او دونها، على السلطة السائدة اليوم في البلاد: "المثقفون الشيعة واعني بهم اصحاب الرأي من الكتاب والباحثين والصحفيين والادباء والفنانين ذوي التوجه العلماني والاسلامي المتنور من الطائفة الشيعية وهؤلاء مهمون ليوم العراق وغده وهم في هذه الايام اكثر اهمية. وتكمن اهميتهم في انهم يمكن ان يكونوا عاملا خطيرا من عوامل اشتعال الحرب الاهلية كما يمكن ان يكونوا، على العكس عاملا حيويا من عوامل تعزيز التعايش المشترك والسلام الاجتماعي لانهم يشكلون اغلبية اصحاب الراي واغلبية المشتغلين في وسائل الاعلام ولأنهم لذلك يتحملون مسؤولية اعتدال او تشدد البيئة الفكرية والوجدانية السائدة، والحكومة خصوصا والسياسة عموما لا تستطيعان الذهاب الى هذه الوجهة او تلك بمعزل عن هذه البيئة". 
وهي احاديث صريحة عن "اقنعة" المثقف العراقي: "كم ازدادت اعداد البعثيين عندما كان الحكم بعثيا؟ وكم ارتفعت نسبة الطائفيين بعدما صار الحكم طائفيا؟"، مثلما هي اضاءات لفساد ذلك المثقف بحسب صورته المعلنة اليوم: " فساد شريحة المثقفين ورجال الدين اخطر من فساد الطبقة السياسية"، فهو يعني في حقيقته المرعبة " فساد جميع فئات المجتمع".  
 
 
يا برج بابل: ألم تستنفد السماء ثأرها منك؟
هي جملة تذهب الى ابعد من السؤال الذي تتضمنه، تلك التي وردت في كلمة المؤلف، بل ان ايجاز بلاد الرافدين في "برج بابل" في علوه العبقري وعناده الذي جر عليه "غضب الالهة"، جاء موفقا كصوغ ادبي لقراءة المصير الفجائعي للعراق اليوم، ذلك الذي يزيد عليه المهنا بقوله: "يبدو العراق مثل بحيرة جف ماؤها. كيف سار الى هذه العاقبة، لماذا وصلها بهذه السرعة؟ وما سر تجمده عندها؟ وهل يمكن ان نختصر الجواب بكلمة واحدة هي السياسة؟ ان مصائر البلدان امر من الخطورة بحيث ان لا تترك للساسة. ولا لأي فئة دون اخرى، فلكل مواطن سهم في مصير وطنه، فاعرف سهمك تستعد وطنك". 

نشرت في الحياة وبحسب الرابط التالي
http://alhayat.com/Articles/9526480/


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM