نقد أدبي  



في تعقب خطوات الغامض العجيب... أدغار آلن بو

تاريخ النشر       08/08/2015 06:00 AM



واشنطن- علي عبد الأمير*
كان عمدة بالتيمور المخضرم، وليام شافير، يدرك دائما ان مدينته تواجه دائما اوقاتا صعبة، الحياة تضيق فيها احيانا رغم انها اطلالة بحرية مهمة، ليست نظيفة دائما لكنها بالتأكيد واحدة من اجمل مدن الشرق الاميركي. وكانت الفترة التي قضاها في الخدمة (1971-1987)، شاهدا على ملامح قاتمة جدا في صورة المكان خلال سبعينيات القرن الماضي، وكيف أن الأمور تغيرت منذ ذلك الحين: بعضها إلى الأفضل والاخر إلى الأسوأ.

تمثال الشاعر والقاص ادغار الن بو : "الغراب عليّ سماعه الى الابد"

كانت بالتيمور (ولاية ميريلاند) محاطة دائما بجو من الغموض و"الضباب التاريخي"، وثمة من يرى ذلك عائدا الى الروح الغامضة والغريبة التي سكنتها، في اربعينيات القرن التاسع حين تزوج الشاعر والقاص  إدغار ألن بو، من ابنة عمته البالغة من العمر 13 عاما، ثم ينتج قصيدته المظلمة "الغراب"، فوفاته لاسباب غير معروفة وهو في الاربعين، بعد عامين من رحيل زوجته اثر اصابتها بالسل، وبعد ان انتقلت قدرته الخلاقة على صوغ حكايات غامضة صارت لاحقا الاساس الحقيقي لادب الجريمة، الى الشاشة حين ظهرت موجة الشاشة السوداء "نوار"، عبر أفلام الرعب البوليسية التي تصور في شوارع المدينة التي دفن فيها وازقتها الغامضة. تلك هي صورة ما لحال بالتيمور، وسحرها الفريد.
في نيسان (ابريل) الماضي، كانت بالتيمور كرة من اللهب الانساني، بعد الوفاة المأسوية لشاب أسود، أثناء احتجازه من قبل الشرطة، فاثيرت اعمال الشغب والحرق والنهب على نطاق غير مسبوق، لتعيد الاميركيين الى ستينيات القرن الماضي، بل ان غلاف مجلة "تايم"، اختصر الحكاية: لاشيء تغير اميركيا فعنصرية  1968 هي ذاتها اليوم، حتى وإن كان الرئيس (اوباما) اسودا. 



بالتيمور في المهب، وهو ما دفع كثيرين وبخاصة أولئك الذين يتطلعون إلى المدينة بوصفها بيئة للإلهام والحلول الإبداعية، الى الاستعانة بعمقها الروحي، وارثها الادبي والفني كنموذج حي للابتكار والعمل التدريجي، بغية الخروج من الازمة، وهنا كان ادغار الن بو، وعلى الرغم من انه ينحدر من مدينة ريتشموند (ولاية فيرجينيا) الان ان بالتيمور كانت بداية حياته الفعلية ونهايتها، وفيها بدأ تحوله من شاعر الى كاتب قصص قصيرة خيالية. وقبل العام 1831، كان بو قد نشر ثلاث مجموعات من قصائده، لم يلق معها سوى القليل من النجاح المادي والمعنوي، على الرغم من أن الشعر كان واضحا انه سيبقى حبه الأول، غير انه ادرك حاجته إلى "توسيع حقيبته اذا كان يأمل كسب العيش من عمله ككاتب"، فراح يشترك في المسابقات الأدبية ذات الجوائز المالية، ويعمل محررا في العديد من المجلات والصحف الأدبية، دفاعا عن الشاعر فيه و الذي " تهوي عليه الكوارث سريعا". 
ومع كل الاخفاق في حياته، مع كل الغموض الذي بدا ملازما لحياته، منذ وفاة والدته مريضة بالسل وهو في الثانية من عمره، ثم ما عناه زواجه من فتاة صغيرة، ونحيبه المتواصل اثر موتها بمرض والدتها ذاته، دون ان يكون قادرا على انقاذها، ومع فقدان الحميمية في حياته اثر نهاية عائلته الحقيقية وتبنيه من قبل عائلة موسورة عاش معها فترة من طفولته وصباه في بريطانيا، وصولا الى الاختلاف الذي اثاره في الاوساط الادبية الاميركية على المسار الابداعي الذي شكله، واهمال بعض الأدباء له رغم التقدير الخاص الذي محضه اياه، الشاعر الفرنسي بودلير، حين ترجم جميع أعماله وكتب عنه، الا ان  صاحب قصيدة "الغراب"، الاشهر في نتاجه وصارت دالة عليه، حد ان تمثاله يظهر الطائر مرافقا له في ترحاله، ظل علامة التجديد والابتكار في الادب الاميركي، ومثالا على عراك لايهدأ من اجل مصير انساني اكثر رحمة، مصير كان يعرف انه سيفتك به عبر موته منسيا في أحد شوارع بالتيمور عام 1849. وشكلت احداث ميدنته الاخيرة، فرصة لمراجعة ليس اعماله وحسب، بل عملا من الموسيقى المعاصرة كشف "حكايات الغموض والخيال" التي برع في كتابتها شعرا وقصة ورواية، مثلما برع الفريق الغنائي المعروف باتجاهاته التحديثية للبناء الموسيقي "آلان بارسونز بروجكت" في استلهامها ضمن باب مقاربة الموسيقى المعاصرة للاعمال الادبية، فهو مقام مضمونياً على استلهام نصوص مختارة من "حكايات الغموض والخيال" عبر انغام تقدم  درساً في مقاربة الادب الى عالم الاغنية واللحن المعاصر، فتوفرت الاغنيات على تصويرية لحنية لاجواء تأتي من اعماق النص "الغامض" الذي يكتبه عادة ادغار الن بو، وفق نص يذهب الى تلك الروح لكن دونما الاهاب الغامض كما في اغنية حملت عنوان حكاية بو الشهيرة "الغراب": 
"ما يزال الغراب في غرفتي/ مهما توسلت ليس ثمة كلمات تسترضيه ليس ثمة دعاء للتخلص منه/ حيث توجب علي سماعه الى الابد".
ولان الاغنيات كانت تمضي الى ما وراء النص المكتوب وتحاول الوصول الى قراءة معاصرة له، لذا جاءت تحمل رصانة شكلها الموسيقي اضافة الى روحها المعاصرة، فهناك الحضور حتى للشكل التقليدي للاوركسترا السيمفوني، بل ان مغني الفريق وواضع الحانه : آلان بارسونز، لم يتردد في استخدام الكورال الانشادي والتوزيع الرصين للاوركسترا الضخمة•
ومن اغنيات "حكايات الغموض والخيال" نستمع الى شعر عميق : "ما هذه السلاسل التي تقيد يدي؟/ جزء منك يموت مع كل نهار يمر/ قل انها لعبة ولن تشعر بالاذى/ ستحس ان حياتك تنزلق بعيداً/ انت ايها الغني يا قليل المصاعب/ ها جئت لتكتشف نظرتي الى الحياة/ ما ثمن تاج ملك في عرشه/ حين تكون انت مقيداً في العتمة وحدك".

*نشرت في صحيفة "الصباح" البغدادية




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM