عن بنات بغداد و"شارع النهر" الجميل (1)

تاريخ النشر       16/09/2015 06:00 AM


علي عبد الأمير*

في خريف العام 1991 خرجت من العراق للمرة الاولى بعد حرب الخليج الثانية، وتوقفت مليا عند طلب مهندسة هي سيدة من اقاربي حين رغبت بان أجلب لها مع عودتي العدد الاخير من مجلة "بوردا". كانت بنات العوائل في بغداد يدمن مجلة الازياء الالمانية طوال عقدين على الاقل بعد ان ازاحت ما كانت مجلة"حواء"المصرية تشكله من ثقافة نسوية ومنزلية، تبدأ من الاناقة وخطوط الموضة الحديثة ولا تنتهي بالمشاكل العاطفية والاسرية ودائما من وجهة نظر نسوية منفتحة على الجنس الآخر وترى في "قضية المرأة" وحريتها جزءا من قضية حرية المجتمع بعامة، مرورا بملاحق التفصيل والخياطة او ما تعرف "باترون" الذي يعين المرأة على تنفيذ تصاميم الازياء الحديثة .

كانت "حواء" من أركان الثقافة العامة في بيوت عوائل الطبقة المتوسطة العراقية، وعبرها تركت مئات الالاف من البنات العراقيات  لمساتهن الشخصية على ما تقترحه المجلة من تصاميم كانت تعرضها مجموعة من العارضات بينهن رجاء الجداوي التي تحولت ممثلة بعد امتلاء جسدها، ولفرط ما عنت الفتيات العراقيات بازيائهن واناقتهتن، لم تجد اللبنانيات من ينافسهن في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته الا العراقيات لا في جرأة ارتداء الملابس والازياء الحديثة بل في اناقة محسوبة وبلمسات شخصية لا سيما ان الحياة في بغداد تحديدا، لم تكن تعرضت الى غزو الثقافة الخشنة والبذيئة المظهر والتي تعتمد خليطا فجا من ثقافة الريف والبداوة .

مشهد من "شارع النهر" 1978

أعادني سؤال السيدة الكريمة الى مشهد عرفته اولا من اصغر شقيقاتي التي تزوجت وهي صغيرة، وتحديدا اثناء دراستها في معهد المعلمات بالحلة، حين كانت تخيط ملابسها بالتعاون مع اخوات زوجها واعتمادا على ما تقترحه مجلة "حواء" من موديلات وخطوط واقمشة والوان، واعادني ايضا الى تحول ثقافي وسياسي ايضا حين بدأت القطيعة العراقية المصرية مع اوائل سبعينيات القرن الماضي، فأنقطع سيل المطبوعات المصرية وما بات ممكنا رؤية العبارة الشهيرة "وصلت بالطائرة"، ومع بحبوحة نسبية وتحديدا بين ابناء الطبقة المتوسطة، ومع الخط التنازلي فكريا وفنيا للثقافة المصرية التي بدأت صراعا مع قيم "الانفتاح" الاقتصادي وصعود رموز ثقافة الاستهلاك، وتراجع مكانة مجلة "حواء" عن رسالتها التربوية والجمالية، بدأت مجلة "بوردا" احتلال المكانة التي كانت تحتلها المجلة المصرية الشهيرة وفي مجال الازياء والخياطة لما كانت توفره المجلة الالمانية من "باترونات" تساعد النساء على تفصيل وخياطة ما يناسب اذواقهن، وهو امر استدعى طلبا على انواع تبدأ ولا تنتهي من الاقمشة فانتعشت محلات الاقمشة المستوردة في شارع النهر واسواق اخرى موازية في المنصور والكرادة، ولكن لـ"شارع النهر" سيادته على غيره من اسواق بغداد في انفتاحه على الجديد والنادر والجميل من ازياء النساء وزينتهن ومجوهراتهن.

ساعات الضحى واول الظهيرة في ايام الصيف كانت متعة شخصية في "شارع النهر"، لا سيما ان صديقا لي كان يعمل في محل مجوهرات والده، وزيارته كانت تعني فرجة على احتفال من البهجة والجمال والازياء والوجوه والاذرع المكشوفة والعطور. الفرجة "الجمالية" كانت تبدأ من اول شارع "المستنصر" او من "رقبة جسر الشهداء" من جهة الرصافة، حيث "سوق دانيال" ثم "سوق الاقمشة" وتفرعاته التي تكاد تبدأ ولا تنتهي وتتصل بمحلات وحرف ومهن تقطر شغفا ومهارة من الصانعين: الريافة ، صنع العباءات الرجالية، تطويع الذهب الخام وتنقيته، بيع السجاد القديم والفضيات والنحاسيات ومحلات بيع الازرار وتجارة الخيوط واعمال التطريز.

وما ان يخرج العابر من هذه الشبكة المتداخلة من الاسواق، حتى يجد نفسه في باحة توصله يمينا الى "عمارة الدفتردار" التي كنت اكتشفت جمالية اطلالة منها على دجلة عبر اخي الراحل قاسم، حين اصطحبني في احدى جولاته الى مقهى في الطابق الاخير من العمارة، يوفر لجلاسه من النخبة المتعلمة اطلالة ولا أجمل على بغداد .
في تلك الباحة المتكونة ايضا من تقاطع "شارع النهر" مع "شارع السموأل" يمكنك ان تلتفت يمينا حيث فسحة على نهر دجلة تفترشها قطع من السجاد الفاخر، فقد كان هناك محل معروف لتجارة السجاد، اما اذا كان عليك ان تستمر قدما فستتوقف بالتأكيد عند مرآى الجميلات وهن يخرجن من او يدخلن الى صف من محلات الملابس الجاهزة والعطور والماكياج على الجهة اليمنى من الشارع، قبل ان تصل الى فسحة على اليسار يكونها التقاطع مع "شارع البنوك" الذي يبدأ من احد اجمل العمارات في العراق والشرق الاوسط لسنوات طويلة من القرن الماضي عمارة "مصرف الرافدين"، والتي تعرضت الى ضربة بصاروخ فجر يوم في منتصف العام 1985 وهو يوم له دلالة اذ سيصبح مفتتحا لاحد فصول الحرب العراقية الايرانية، فصل دموي آخر اسمه "حرب المدن". تقابلها عمارة البنك المركزي التي شهدت تغييرات عدة الى ان صارت اواخر الثمانينات صندوقا ابيضا ضخما في استعارة لفكرة "الخزنة" او"القاصة" كما يسميها العراقيون.

*جزء من فصل بعنوان "بوردا" ضمن كتابي "حنين بغدادي" الصادر عن "دار الاديب"-عمّان 2012



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM