عن بنات بغداد و"شارع النهر" الجميل (2)

تاريخ النشر       17/09/2015 06:00 AM


علي عبد الأمير*

بين محل للاقمشة الفاخرة وآخر للاكسسوارات، هناك شوارع واسواق فرعية، تزخر بمحلات قائمة على خدمة الحركة التجارية في الشارع الذي يحلو لبعض البغداديين ان يسميه "شارع البنات" تارة، او "شارع المغايز" تارة اخرى، وفي ما ذهبوا اليه الكثير من التوصيف السليم،  فهو المكان الذي كان يمكن ان يضع ملامح أقرب الى الواقعية، ملامح لجمال المرأة العراقية واناقتها ورهافة ذوقها، فمن بهرجة ثياب الزفاف ومستلزماته كما في محل "الافراح" الى دلع يبلغ مدياته "الانثوية"في مجموعة من المحلات التي تعنى بالملابس النسائية :"المقص الذهبي"، "اوريجنال"، "النعيمي"، "المغازجي" و"نايف بهنو"، وصولا الى سلسلة من محلات الذهب المتوزعة في ثلاثة مواقع من الشارع الاولى في نقطة التقاء شارع النهر مع "سوق دانيال"، والثانية وسط الشارع والثالثة اقرب الى "غرفة تجارة بغداد" بعمارتها الجميلة التي صممها "مكتب هشام منير ومشاركوه" وتحديدا المعمار ناصر الاسدي، و"جسر الاحرار". ومن بين اشهر الصاغة يمكن التوقف عند: ابو القاسم، ياسر صكر الحيدر، خليل مال الله، الحاج ابراهيم العطية، سيد هاشم الورد وبهاء الدين خروفة.

جانب من شارع النهر ستينيات القرن الماضي ويظهر جزء من محل "المقص الذهبي" الشهير

واذا صح الوصف الذي تقصده عبارة "لكل ذوق ما يشتهي" في مكان محدد فانه لا يصح قدر ما يصح في "شارع النهر"، حتى انك تجد في "عالم الاطفال" النسخة العراقية من محلات بريطانية معروفة بكل ما له علاقة بالاطفال من لعب وملابس وثياب وتجهيزات، وهو محل ضخم يمكن فعلا ان يتعب مرتادوه من الامهات والاباء والاطفال فكانت فيه كافتيريا يمكن فيها التقاط الانفاس وكسب الراحة.

وثمة مكان من نوع آخر يمكن فيه للنساء التقاط الانفاس من تعليقات الرجال اصحاب "الالسن الطويلة" و"العيون الوقحة"، مكان هو "بوفيه السيدة" الذي يوفر مأوى لمن اتعبهن التجوال وأزعجهن عدم وجود ما بحثن عنه طويلا من ثياب او مخشلات ذهبية او عطور .

 

مرآة المدينة المبهرة 

شارع النهر .. مرآة الحياة العراقية بعامة وحياة بغداد بخاصة، هو مترع بالجمال وملامح الاناقة الهادئة كما في ستينيات القرن الماضي، وبالتدفق في الالوان والصخب الجميل  الذي تثيره فتيات بلغن من الجرأة  في بداية سبعينيات القرن الماضي ان ارتدين اقصر الفساتين قبل ان يبث خير الله طلفاح (خال الرئيس السابق صدام حسين) نوعا خاصا من العسس سماهم "شرطة الاداب"، وكانت تتولى ملاحقة اصحاب الشعر الطويل من الرجال "الخنافس" وجز شعورهم امام الملأ، فيما صبغ السيقان المكشوفة كان حصة النساء من العقوبة"الاخلاقية".

وانسحب ذلك الايقاع الصاخب للحياة في شارع النهر خلال عقد الثمانينيات، فثمة كوابيس الحرب تتقدم شيئا فشيئا وتنشأ في الوقت ذاته مراكز تسوق في اماكن بدأت تجتذب المتبضعات كما في اسواق "كرادة خارج" و"بغداد الجديدة"، "عرصات الهندية"، "زيونة" في الرصافة، فضلا عن اسواق "المنصور"، "الكاظمية"، "البياع" و"الدورة" في الكرخ، فالتوسع العمراني في بغداد وانشطار الاحياء انهيا فعليا سطوة "شارع النهر" الذي صار مقتصرا على محلات متخصصة بالذهب والفضة والاحذية والحقائب والاقمشة الفاخرة .


زينة الأجساد وأدعية الروح

واذا كان شارع النهر ظل مترفعا بما في مخازنه من كنوز وروائع وما في زبوناته من رفعة ذوق ورهافة حس وقدرة سخية على صرف المال، فانه ظل فخورا بانه يمشي الهوينا بين معلمين بارزين في بغداد : "شارع الرشيد" ونهر دجلة، ويسند ظهره وهو يتطلع بأفانين الازياء وتلاوين الاجساد الى جدران راسخة في التاريخ فثمة مساجد هي وجوامع وخانات وحكايات وتحولات ازمنة بغدادية عتيقة تجعل من الشارع ايضا واحدا من مراكز الروح ومواضع الادعية الربانية في بغداد، ففي الشارع "جامع الباجه جي" الايل للسقوط اليوم، وجامع "التكية الخالدية" ومعه تستذكر ائمة وقراء ومتصوفة ومريدين، وجامع "العادلية الكبير" و"جامع الخفافين" الذي يستند الى عمق تاريخي فهو من اقدم الجوامع ببغداد ويعود تاريخه الى نهايات العصر العباسي ويقال ان فيه قبر السيد اسماعيل ابن الامام جعفر الصادق. 

كما ان الشارع وتحديدا في قسمه القريب من "جسر الشهداء"، اي  قرب"سوق دانيال"، يضم مرقد الشيخ علي بن محمد السمري، احد "سفراء" الامام المهدي المنتظر، وهو مزار يؤمه الناس من الخارج وذلك لصغر وضيق مكانه 

جانب من شارع النهر اواخر سبعينيات القرن الماضي

 

كما تسترخي في الشارع او تتصل به مجموعة من الخانات القديمة وهي تعود زمنيا الى العصر العثماني، ومنها"خان دلة" و"خان الباجه جي" و"خان الخضيري"، وقد تحولت الى محال تجارية لبيع الملابس عدا "خان مرجان" الذي يتصل بالشارع عبر موقعه في شارع "السموأل"، وظل دالا على بعض ما في بغداد من قدرة على جمع السّمار اذ كان ينفتح في مساءاته على موسيقى الجالغي البغدادي وصوت قارى المقام العراقي يوسف عمر حتى وقت قريب قبيل رحيله اواسط ثمانينات القرن الفائت.

 وهناك من يرفض الامتداد الجغرافي لشارع النهر كما تعرضه الدراسات الاكاديمية والنقوش التاريخية، فثمة صديق من ربابنة سوق الذهب يقول، ان الشارع يبدأ حقا من نقطة لقائه بشارع السموأل وينتهي بجسر الاحرار. ونقطتا البدء والانتهاء  كانتا دالتين على دأب يدوي وانهماك في فنون الصبر والاناة والاثر الانساني، ففي البدء ثمة محلات ما يعشقه البغداديون القدامى من السجاد اليدوي الفاخر المستورد من روسيا وايران وباكستان وتركيا، ولان تلك المقتنيات كانت اشبه باللقى بسبب اسعارها المرتفعة وندرة اصنافها  فقد ولدت مهنة الحرص عليها والرفق بها، مهنة الريافة التي عرفها "شارع السموأل"، كونه اكبر مجمع للسجاد العريق في بغداد وفيه برع روّافون بمهارة قدّت من فنون وبراعة ومعرفة باصول الخيوط والنسيج والاصواف والحرائر والاقطان والالوان، مثلما قدّت من دأب وصبر وقدرة على تجاوز الذات واجتراح ما يشبه المعجزات: اعادة ما اتلفه الناس والزمان من السجاد والالبسة النادرة الى سابق عهدها من الابهة والزهو والجمال. الروّافون اشقاء الدأب والاشتغال بصبر على ازالة الشقوق واصلاح ما يفسده العابثون او ما يتركه الدهر هم دالة على زمن يحتفي بالنادر والثمين فيحنو عليه ويرتّقه ويعيده الى القه، فلطالما عنوا بكنوز حقيقية على هيئة قطع من سجاد نادر يباع المتر المربع الواحد منه بالاف الدولارات اليوم.

 

مشهد لأحد محال بيع القماش في القسم الاول من شارع النهر 


سادة الصمت في أسواق صاخبة

كنت دائما ما احمل قطعا من السجاد اليدوي التي  ظلت والدتي تحتفظ بها الى روّافين كانت "اصابعهم من ذهب" حقا، وكنت اجد في الجلوس على دكة في مقدمة دكان احدهم متعة لاتضاهى: متعة مراقبة الانجاز الذي تبدعه اليد المجردة وما يرافق ذلك من هدوء بالكاد تقطعه اصوات المارة وسؤالي عن الوقت الذي تستغرقه قطعة سجاد كان من سعيت اليه يقوم باصلاحها، فثمة من كان يرد على ذلك السؤال بالقول مثلا : "الـتأني ميزة عملنا،  فهناك عيوب صغيرة  في سجاد ثمين مثل "كاشان" او "اصفهان" قد تستغرق في اصلاحها 20 يوما وربما شهرا باكمله". كنت اراقب المربع او المستطيل الخشبي الذي يسمى "التركال"، والذي يسندون اليه الجزء التالف من قطعة السجاد مثلما كنت اتابع الايدي وهي مشغولة بالابرة والكشتبان اللماع الذي تتغير احجامه بتغيير طول الابرة وحجم الجزء المتضرر من النسيج .

الروّافون دائما كانوا سادة الصمت في اسواق صاخبة، وكنت اجد متعة لا تضاهى في مراقبتهم وهم يعملون في فضاء من الهدوء التام حتى وان كانت محلاتهم وسط اسواق صاخبة. هكذا اهتديت الى روّافين في سوق اربيل القديم ووجدت في اصلاح سجادة قديمة صغيرة كان يضعها آمر وحدتي العسكرية امام باب غرفته سببا لقضاء وقت ممتع مع روّاف في سوق لبيع السجاد النادر والثمين، مثلما وجدت المتعة ذاتها في سوق قديم بمدينة الموصل التي تشع باشياء ومهن تتصل بالدأب اليدوي والحنو على الاشياء والمقتنيات الثمينة وابقائها ما امكن على قيد الحياة، والماء صنو الحياة، والماء في دجلة، ولدجلة في بغداد ضفة يطل منها "شارع النهر: وتحديدا ضفة يحمل اليها الروّافون سجادا قيد الرتق والاصلاح، فهم وقبلوا ان يبدأوا الريافة يغسلون السجاد لصعوبة ريافته  متسخا. 

في ايام الجمعة وتحديدا في سنوات الدراسة الجامعية كان يحلو لي ان اختار موقعا من بغداد اقضي فيه وقت الضحى والظهيرة ، وهكذا قادتني خطواتي ذات مرة الى الى موقع غسيل السجاد المطل على ضفة دجلة والقريب من "عمارة الدفتردار"، وهناك اي في "الشريعة" تعرفت على اشخاص خبروا التعامل مع السجاد، فهذا نوع يغسل بماء  بارد ويفضل غسله صباحا حيث الجو لايزال باردا والسبب لأن هذا النوع من السجاد تكون الوانه غير جيدة ولهذا تنحل وتسيح مع الماء اذا ما اصبح دافئا او حارا، وهناك انواع تغسل بـ"الصابون الرقي" شرط ان يكون من "النوع الحلبي الممتاز" كون الصوف المستخدم في حياكتها من اجود انواع الصوف الناعم و مستخرج من الاغنام الصغيرة العمرالذي لا يحتمل مواد تنظيف قاسية.

هنا تعرض للشمس انواع من السجاد تأخذ اسماءها من مدن او قرى او قوميات او شخصيات فثمة "كاشان"، "اصفهان"، "قم"، "قرباغ" و"الكردي" لنحو من يوم الى ثلاثة كي تجف من الرطوبة التي سكنتها من تأثير الامكنة المعتمة وسيئة التهوية، فيما يفضل العاملون وضع وجه السجادة على الارض كي يتساقط التراب العالق بها ثم يكورونها ويضربونها بعصا غليظة، ومثلما لكل سجاد وقت خاص بالتنظيف له نوع خاص من الضرب فهو يختلف من سجادة لأخرى حسب نوعها وقدمها ومدى الضرر الذي لحقها، فهم اكثر رفقا بالسجاد الذي مشت وجارت عليه اقدام كثيرة، كما انهم يغيرون مكان ضربها الى ان تكاد كمية التراب التي تخلفها السجاد تنعدم .

عمال بعضلات سيقان واذرع متوترة يغسلون ما اعتبرت قطعا من ارواح بيوت بغدادية كثيرة، فيفرشون السجادة على وجهها ويسكبون عليها الماء لفترات تمتد لساعات حسب درجة اتساخها ثم يبدأون غسل ظهر السجادة اولا بالصابون او مساحيق الغسيل مرات عدة مع استخدام الماء بكميات كبيرة، ليبدأوا غسل صوف السجادة بالماء وفرشاة وخشبة مستطيلة للضغط على السجادة ودفع الماء خارجها، ثم يكررون العملية باضافة مساحيق الغسيل حتى يصبح الماء الخارج من السجادة نظيفا بعد ان كان اسودا او رصاصيا في اول غسلة. 

الاذرع الغليظة تبرم السجادة برفق وحنو وتربطها من اطرافها ووسطها بحبل قوي، وترش عليها كميات كبيرة من الماء ثم تنقل الى مكان جاف تترك  فيه ثلاث او اربع ساعات حتى ينساب اغلب ما فيها من ماء  لتنقل الى مكان مواجه للشمس وتفرش وتقلّب حتى تجف. صحيح ان سجادنا كان قديما ولكنه لم يكن نادرا الى الحد الذي يدفعنا الى ان نحمله الى الشريعة كي يغسل بهذه الطريقة كانت عصي وماء وصابون والدتي وشقيقتي بلقيس كفيلة بذلك. 

ما يصبح نظيفا من السجاد ينقل كي يصبح بعهدة الروّاف الذي يحدد نوع الخيوط المستعملة لها ان كانت قطنية او صوفية والقطنية. واذا كنت لطالما قرأت عبارة "لحمته وسداه" في اشارة الى شدة التصاق ظاهرة ما بجوهرها، فانني لم اعرف من اين أصل العبارة حتى ظهيرة ما عند احد الروّافين، فعرفت ان "السدا" هي عملية الرتق بالخيوط القطنية، اما  الخيوط الصوفية فتستعمل في عملية تسمى "التلحيم" ومنها "اللحمة". 

يبدأ الروّاف بغرز خيوط "السدا"، وتغرز بالابرة والكشتبان داخل السجادة، بعدها يوضع "التركال" على مكان العيب الذي غرست به خيوط "السدا" وتدق السجادة بعد ان تسحب بشكل قوي وتبدأ مرحلة غرز خيوط "اللحمة" وهي خيوط يجب ان تكون بنفس الوان الخيوط الاصلية الموجودة في السجادة، وعلى ان يكون تمرير خيوط اللحمة داخل خيوط السدا بالمستوى ذاته الذي جاءت عليه السجادة الاصلية. ان ما يسميه الروافون "السدا واللحمة" اهم مرحلة في عملهم واصعبها، فالخطأ فيها سيلازم عملهم الى نهايته اي ان فيها "لحمة" عملهم و"سداه". 

واذا كانت محلات الروّافين بدأبهم اليدوي اشارة الى نقطة بداية  شارع النهر فان محلات الصاغة ونقاشي الذهب والفضة هي اشارة نهاية الشارع القريبة من "جسر الاحرار". صاغة المجوهرات والحلي الذهبية والفضية واصحاب بعض محال الأنتيكات ممن جاوروا عمارة غرفة تجارة بغداد التي تأسست عام 1926 (سنة حاسمة في تاريخ العراق المعاصر ففيها ولد اغلب من سيكونون لاحقا بناة البلاد روحيا وماديا على حد سواء)، هم باغلبهم  من الصابئة المندائيين القادمين من جنوب العراق الى بغداد منذ النصف الاول من القرن الماضي. الصاغة في تلك المحلات  عرفوا بمهارة النقش والتكوين والحفر وفي مجال الفضيات بخاصة ودائما على معالم وايقونات شكلت الى حد بعيد معالم الهوية الوطنية العراقية حد انهم كانوا موضع ثقة دوائرالحكومة والشركات التي كانت تقدم  نتاجهم وبفخر، كهدايا الى الوفود والشخصيات الاجنبية. 

 

*جزء ثان من فصل بعنوان "بوردا" ضمن كتابي "حنين بغدادي" الصادر عن "دار الاديب"-عمّان 2012

* الصور من ارشيف الصديق الكريم علي مؤيد.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM