عن بنات بغداد و"شارع النهر" الجميل (3)

تاريخ النشر       20/09/2015 06:00 AM


علي عبد الأمير

في العام 1983 اشتريت من محل صديقي الصابئي مؤيد، عقدا ذهبيا،  وفي العام 1993 اضطررت لبيع العقد كي ابدأ مشروعي الخاص: عيادة ومكتب للأدوية البيطرية، وكان صديق "صائغ" آخر من اشترى العقد هو سعد ابراهيم العطية، حينها عرفت ان شارع النهر بدأ فعليا يعيش ايامه الاخيرة، لا لمشهد الفراغ الموحش وهو يلف جوانب عدة من محلاته بل في التعليق اللافت للصديق الذي عرفته في احدى الثكنات خلال الحرب: "نحن لا نبيع الذهب الآن ..نحن نشتري من الناس فقط".

" كاشان" و"ايف سان لوران"

وكانت تلك الجملة تلخيصا مبكرا لمرحلة ليس عبثا القول ان موت "شارع النهر" كان ملمحا بارزا من ملامحها: مرحلة الحصار حين بدأ العراقيون وتحديدا من ابناء الطبقة المتوسطة والمتنورة يبيعون كل شيء اتقاء لغول الحاجة والفاقة. مرحلة ستكون ثقيلة على مكان لطالما اشتغل على الاشياء الخفية والرقيقة، مكان له عناية بالأذرع البضة والخصور وطراوة الصدور والافخاذ، مكان معني بحمرة الخدود واكتناز الشفاه (هل يمكن لي نسيان صورة سيدة بجمال غامض مثير كانت تخرج من احد محلات الشارع وهي تضع "احمر" شفاه بنفسجيا يناسب لون قميصها المفتوح على نحر وردي؟)، مكان مفتوح على نسيم النهر، على رقة "النفانيف" كما يسمي البغداديون الفساتين، على صوت الغنج الذي اسمه سيقان بأحذية الكعب العالي، مكان للذهب والمخمل ، مكان للنحاس والالماس، مكان يثمن اتقانا عتيقا اسمه "سجادة كاشان" مثلما يثني حد النشوة على عطر جديد من سلسلة عطور ايف سان لوران، مكان كانت تتحقق فيه المقولة الشهيرة "اذا طابت النفوس. غنت" فثمة محلات كانت "تنحت" الاحذية لأقدام النساء، فمحلات مثل: "احذية نجيب حرّاق"، "احذية روز"، "احذية يروانت" و "احذية كرابيت"، كانت تصنع احذية حسب الطلب وبمقياس اقدام الزبونات الانيقات واذواقهن، مكان يتسع للصائغ الشيوعي مؤيد مثلما يتسع للصائغ التقي الحاج ابراهيم العطية، مكان تتدلى فيه اشرطة خضراء عند شبابيك اولياء ومتصوفة مثلما تتدلى فيه اشرطة وردية تزين ثياب النوم النسائية، مكان كان الى حين المطرح الوحيد الذي يمكن فيه "للنجوم" العراقيين ان يستعرضوا وجودهم فيه وسط فضول نظرات الناس واعجابهم، كان يمكن رؤية ممثلين وممثلات، مذيعات التلفزيون ومقدمي برامجه، كتاب وصحفيين، مطربات ومطربين، وفيه "هامشيون" مثل بائعات هوى كن يعرضن بضاعتهن في كواليس الشارع وتحديدا على الحرفيين الذين ينشطون في ازقة وخبايا تتصل بالشارع ويوفرون ما تطلبه المحلات من بضائع، مثلما فيه "مجانين" ومشردون صاروا الى حين جزءا من حياته اليومية بينهم: "عبد الفردوس" الذي لم يعرف اسمه الحقيقي، ويقال انه اصيب بالجنون بعد ان ادخل الى دائرة الامن متهما بالشيوعية و"مجنون" اخر اسمه ناشي، فضلا عن "مثليين" كانوا يضعون طبقة خفيفة من "احمر الخدود" ويتمايلون بنعومة في مشيتهم، و وسط كل هذا التدفق الاجتماعي كان للعابر ان يسمع اصوات "الهلاهل" تنبعث فجأة من محل للذهب او من محل ثياب للعرائس حين كانت عائلتا العريس والعروس توفد من يمثلهما الى شارع النهر لشراء ما تشتهيه العروس وسط فرح امها وشقيقاتها وتبرم ام العريس وشقيقاته على الاغلب.

من شارع النهر في اواخر ايامه "الذهبية"


مدينة الرجال "الشجعان" بامتياز

كان صديقي الشاعر وزميلي في كلية الطب البيطري عبد الحميد ماجد (قتل اوائل الثمانينات في انفجار شاحنة محملة بالعتاد) يسميه "شارع النهر والنساء" ويسهب في سرد مبرراته "الشعرية" فيقول ان "مشهد النساء في الشارع يماثل مشهد القوارب في الجانب الشرقي من دجلة حيث يطل الشارع، فاذا كانت القوارب منداة برقة الامواج ورذاذ الماء الذي تنثره المجاديف واذرع العابرين من ضفة الكرخ المقابلة (الشواكة) الى الرصافة، فان النساء طريات برذاذ العطور وامواج تندفع من رغبات الرجال". وبالرغم من "شعرية" التأويل الذي كان يمنحه الصديق الراحل للشارع الا ان انه كان "واقعيا" لجهة ان المكان من ألفه الى يائه انثوي العطر والنكهة واللون، هو "شارع النساء" يستمد من الانوثة اسباب وجوده وهو كان مؤشرا على حيوية بغداد، فالمدينة، اي مدينة، هي انثى لجهة رقة طباعها وتلون ملامحها وخصوبة اوقاتها، وهي ان بدأت مرحلة تراجع مدنيتها انما تتحول الى فظاظة وخشونة في السلوك واللغة وهو ما بدأته بغداد فعليا منذ اجتياح العراق للكويت 1990 ومن هنا كان يبدو طلب قريبتي المهندسة للعدد الجديد من مجلة "بوردا" حين رفع قرار حظر السفر في العام 1991 محاولة لاستعادة ملامح تمدن و"انوثة" ما في حياة بغداد كانت بدأت تختفي شيئا فشيئا، حد ان المدينة الغاوية الآن هي مدينة الرجال "الشجعان" بامتياز.

* جزء ثالث وأخير من فصل بعنوان "بوردا" ضمن كتابي "حنين بغدادي" الصادر عن "دار الاديب"-عمّان 2012



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM