ضوء ثقيل في حقيبتي

تاريخ النشر       21/09/2015 06:00 AM


علي عبد الأمير*

كان عليّ ان احتفظ بأحلامي، وكان عليّ أن أحتفظ بعقلي، رغم انني كنت على يقين من انني ذاهب إلى مهمة شديدة العسر والجفاف واللؤم ايضا، فأنا ذاهب إلى الخدمة في الجيش العراقي، وتحديداً في فترة صعود صدام ليس إلى السلطة "زعيماً وحيداً"، بل في فترة بطشه بكل من يختلف معه حتى وإن كان من عناصر حزبه، فكيف الحال وأنا الذاهب إلى "خدمة العلم" ويسبقني الى الثكنة ملفي السياسي بوصفي معارضاً للبعث.

مع نفسي قررت أن أتزود بكل معدات الصبر والمجالدة والحيلة أيضا، فثمة أقدامي وهي ما انفكت منداة بعشبٍ مبلل، عشب أمنياتي وحياتي التي ستظل مؤجلةً إلى الأبد على ما يبدو. ومن بين أعظم وسائل تمرين العقل على أن يظل مشعاً، كان الكتاب، ومن أعظم وسائل تمرين الروح على الرّقة، كان النغم الموسيقي، لذا كانت الكتب والأشرطة الموسيقية هي أثقل ما في حقيبتي، التي أحمل في كل مرة كنت أعود فيها إلى الثكنة، أكان ذلك قبل اندلاع الحرب مع إيران أم بعدها.

وبما إن الكتاب "مثيرٌ للشبهات" لاسيما بين "ضباط التوجيه السياسي"، لذا كانت كتب الأدب، وتحديداً الرواية والسيرة، ملاذي بعيداً عن كتب الفكر وعلم الاجتماع والسياسة، وكي لا يتم الربط بينها وبين "تاريخي السياسي" (رغم إنه كان أقرب إلى عمل الهواة السذج في حقيقته)، وكانت الفرصةُ متاحةً كي أتعرف إلى ما كنا نسميه بحسب التقسيم الفكري المتعسف "الأدب البرجوازي"، فتعرفت على أدب ارنست هيمنغواي المترجم إلى العربية كله تقريبا، وتوقفت عند كتاب "بابا هيمنغواي" الذي يعدّ بمثابة السيرة المذهلة للكتاب الأميركي الشقي، مثلما قرأت مارسيل بروست وهيرمان هيسه، وكنت على سبيل وضع قناع الاتصال مع الثقافة المسموح بها اتردد على مكتبة الثكنة، فقرأت "حراس البوابة الشرقية" الكتاب الذي وضعه المصري جمال الغيطاني في شكل قارب بين القص والتحقيق الصحفي الذي يكتبه المراسل الحربي عادة، ثم أصبح لاحقا العنوان الأعرض للجيش العراقي خصوصا في حربه مع ايران.

ومن الأدب العربي المعاصر، قرأت جبرا ابراهيم جبرا روائياً وقاصّاً وناقداً، مثلما قرأت ترجماته في النقد. وكان اكتشافي الهائل من بين ترجماته كتاب يان كوت " شكسبير معاصرنا". وظل بحثي عن الأدب "البرجوازي" دؤوبا، فقادني إلى قراءة غادة السمان، مثلما قادني إلى معادلة كنت كوّنتها مع نفسي، وربطت فيها بين مطبوعات "دار النهار" البيروتية وبين ما لا يثير أي شبهات، حتى انني حين قرأت روايتي سولجنستين، كنت أقول لمن يراهما بين يدي، انهما من تأليف المنشق على النظام الشيوعي. وفضلا عن صاحب "خريف الغولاغ"، قرأت أدب باسترناك، وكان لأثر صاحب "دكتور زيفاغو" ما كشف لي بعمق، الأثر التدميري لـ "ثورة أكتوبر" لجهة عنفها الأهوج حيال معالم المجتمع الروسي "القيصري" وثقافت

وفي الشعر عرفت نبعاً من المعرفة الروحية والجمال عبر تجربة "مجلة شعر"، ومعها ندمت كثيراً حين قبلت أن أصطفَ إلى أحكام نقدية جائرة كان يسوقها " الفكر التقدمي"، ويضع تلك التجربة في خانة " ثقافة عملاء الغرب" أو "الثقافة البرجوازية" في أحسن الأحوال، وفي سياق متصل قرأت تجربة توفيق صايغ. وانطلاقا من هذه المراجعات كنت انقّب في مكتبات بغداد آملا العثور على كل ما كان ينظر إليه بريبة ضمن فترة صعود "الأدب الاشتراكي" واليساري عموماً، فعدت إلى أنسي الحاج ويوسف الخال، فيما ظل أدونيس من بين الأسماء التي كنت أتجنّب اشهار قراءاتي لها في الثكنة، فصاحب "مفردٌ بصيغة الجمع" كان ممنوعاً بتهمة "العداء للثورة في العراق وللأمة العربية".

الحذر من أسماء روسية كان يتحول إشهارا في إدماني ترجمات حسب الشيخ جعفر، وتحديداً في ترجماته شعر يسنين، بوشكين وآخماتوفا، فتلك الترجمات وغيرها من الكتب التي تتعاطف مع "الأدب التقدمي"، كما في "التجربة الخلاّقة"، كانت من اصدار وزارة الثقافة والإعلام العراقية، مثلما كانت توفر بعض مجلاتها الأدبية، وتحديداً مجلة "الثقافة الاجنبية"، نافذةً لا يشاركني الاطلالة من خلالها على العالم، رقباء "التوجيه السياسي"، ولا وشاته في الثكنات، فهم كانوا يعتبرونها "مجلاتهم الملتزمة" رغم انها لم تكن كذلك في أحيان كثيرة.

وفي إطار التعمية ذاته، كنت أختار من مكتبة المعسكر مذكرات القادة العسكريين وأخبار التقنيات المتطورة، وخصوصاً في الطائرات وصواريخها، ولشدة ما تعلقت بصور الطائرات الاميركية: أف -5 وأف -14 وأف -15 وأف -16 وأف -18 وبالطبع "سكاي هوك" و"فانتوم" والروسية (السوفياتية حينها): ميغ -21 وميغ -23 وميغ -25 وسوخوي والقاصفة توبوليف، كنت أتمكن من تمييز أي طائرة كنت أتابع تحليقها فوق قطعاتنا اثناء الحرب، أكانت إيرانية أم عراقية، وبالذات في حالات الطيران المنخض.

كانت الطريق من بغداد إلى أربيل طويلة، ولطالما كانت المسافة مطبوعة ببصمات ما كنت اقرأ، مثلما كانت الطريق من أربيل الى تشومان تستغرق مع الوقفات في صلاح الدين وديانا أكثر من خمس ساعات، فكان الكتابُ رفيقَ سفرٍ أنيساً، لاسيما إن جمال الطريق وسط الوديان والسهول أو بين السفوح فقد تأثيره عليّ لفرط المرات التي قطعتها فيه. لم يكن الكتاب يعينني على قطع الطريق وحسب، بل لطالما منحني الفرصة تلو الفرصة للتأمل والشرود إلى حياتي التي كانت مشتتةً ما بين أشيائي الصغيرة في غرفة ضمن بيت أختي ببغداد، وأحلامي بان أنام مطولاً قريباً من أمي وأبي في بيت أخي قاسم، بمنفاه الأخضر، كما كنت أسمي (ناحية مشروع المسيب الكبير)، حيث يعمل مهندساً زراعياً، ومع شتاتي الشخصي بين بيتين، كانت هناك انشغالاتي العاطفية التي صارت بإرادتي احيانا أو بعدمها أحيانا اخرى، صارت قصصاً قصيرةً جدا.

ومثلما كانت الطريق التي أقطعها من الحلة إلى بغداد، ومنها إلى أربيل، ومنها صعوداً إلى أقصى منطقة في شمال شرق البلاد وبالقرب من الحدود الإيرانية، مطبوعةً بآثار الكتب التي بين يدي وتلتهمها عيوني، كانت مطبوعةً أيضاً بالموسيقى، وكان سواق سيارات الأجرة الصغيرة بين أربيل وتشومان، يشفقون على طلبي بوضع شريط ما في أجهزة التسجيل في سياراتهم مع إن أغلبهم ما كانوا يستسيغون ما كنت أفضل سماعه، ولا يمكن لي في هذا السياق أن أنسى ما حييت كيف تطابقت أغنية "وحدن" لفيروز، بما فيها من احساس بالعزلة الثلجية، مع الطريق ما بين مرتفعات سبيلك وخليفان وقد غطتّها الثلوج التي نزلت قبل يومين من مروري فيها عائدا من بغداد إلى وحدتي (مقر اللواء 98) في تشومان، وتحديداً إلى غرفتي التي كان يشاركني فيها "الخدمة– العقوبة" ابن مدينتي الدكتور حميد حسين، والذي صارت فترة وجودنا معا، زاداً روحياً أعانني شخصياً على النفي والعزلة (كان الجنود من خريجي الجامعات والذين تحيط بهم الشبهات لجهة ولائهم السياسي، يبعدون إلى المناطق القصية في البلاد، وهكذا شاءت قراراتُ النفي أن تجمعنا معاً: إن تجمع معارضين للبعث سيحولان غرفةً طينيةً صغيرة إلى غرفة دافئة بالأحلام والكتب والموسيقى أيضا).

وإذا كانت الكتب مدّتني بقدرةٍ على المجالدة والصبر واختزان العوالم، الخيالي منها والواقعي، فان الموسيقى كانت جناح الرحمة الخفّاق دائماً، والذي كان يأخذني بسرعة بعيداً عن ملاجئ العزلة أو قلاع الرعب، كما في ثكنتنا قريبا من مدينة راوندوز الكردية الواقعة على الطريق ما بين كلي علي بيك وشلالات بيخال. 

الثكنة كانت قلعة راوندوز التي بناها الجيش العراقي في الخمسينيات وكانت في غرفها ودهاليزها المعتمة قليلة الضوء نهاراً والمعتمة ليلاً، أقرب إلى قلاع السجون التي رسمت الأفلام العالمية ملامحها كما في "الفراشة"، غير إن تلك العتمة شعت ضوءاً شفيفاً على حين غرة، فبعد أن نقلت الى "لواء المشاة 23" الذي يتخذ من القلعة مقراً له، وبعد أيام عصيبة حقاً في تلك الوحدة حيث رماني آمرها مع جنود أميين في غرفة عطنة الرائحة، وبعد فراري منها لنحو ثلاثة أيام وعودتي الى مقر وحدتي الاصلية في أربيل، وطلبي من آمرها الجلف أن يعيدني الى وحدتي القديمة رغم انها بعيدة وأقرب الى المنفى القصي منها إلى أي شيء، وبعد رفضه طلبي هذا وعودتي مخذولاً ليتم تقديمي أمام آمر وحدتي الجديدة ويأمر بسجني ثلاثة ايام، بعد كل هذا أخذ المكان طابعاً هادئاً حين انفتح على ألفة مع ضابطين مجنديين هما قمة في السلوك المهذب، فكانا يخففان عليّ وحشة المكان وغلاظة الضباط والجنود على حد سواء، أولهما كان ملهم علي غالب الذي أخفى عني انه كاتب ومترجم وقريب الشاعرة نازك الملائكة، وثانيهما أحد أبناء البصرة الطيبين، ميثم عبد الأمير.

في غرفتهما، وإن كانت جدرانها وسقفها من "جينكو" كان يجعل شمسُ آب فرناً حقيقياً، سمعت موسيقى وقرأت لهما نصا شعريا كنت كتبته تحت رعب تلك الايام، وحزنت لغيابهما أيضا، ففي الأسبوع الأول من أيلول 1980 صدرت الأوامر إلى اللواء بالتحرك باتجاه خانقين استعداد للحرب التي ستندلع بعد أيام، وبما انني كنت "ضيفاً" على اللواء ولست منتسباً اليه، فقد تم تحويلي إلى "مذخر تموين راوندوز" الذي كنت فعلياً أمارس وظيفتي الأساسية فيه، فاحصاً للحوم والأرزاق الطرية لعشرات الوحدات العسكرية التي كانت تعتمد المذخر مصدراً  لتموين أرزاقها.

في صباح الثاني والعشرين من أيلول 1980، كنت نائماً على سطح " قلعة راوندوز" حين مرت على مستوى منخفض 12 طائرة عراقية قاصفة، متوجهة الى الشرق، حينها إستفاق الحالم فيّ ليجد نفسه في فرن حقيقي اسمه الحرب.





 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM