Hello في "حقل مجنون"

تاريخ النشر       22/09/2015 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام*

بدأت منذ ربيع العام 1982 نشر مقالات في مجلة "فنون" تتناول بالعرض والتحليل الفني والاجتماعي ابرز الاسطوانات الجديدة في الموسيقى الغربية، وتحولت تلك المقالات بابا ثابتا في الصفحات الموسيقية للمجلة التي كان يترأس تحريرها الناقد محمد الجزائري الذي تحول صديقا رقيقا مع استمرار علاقتي بالمجلة، وعلى الرغم من مواسم الجحيم في الحرب الا انني كنت اواظب على مد المجلة بمقالاتي وبانتظام حتى في حالات بقائي فترات طويلة في جبهات القتال حين كانت تمنع الاجازات الدورية مع اشتداد المعارك. 

وكان هذا الاصرار استجابة لمشاعر البقاء على قيد الامل فضلا عن عنادي لمشاعر اللاجدوى التي كانت تحيط بي دون ان اجعلها ذات مرة تنال مني. 

من ايام شرق البصرة 1984


وفي رعب معارك "حقل مجنون" ما بين البصرة والعمارة في شباط وآذار 1984 كان لابد ان اندرج في حمى المعارك، لكنني بعد اسبوعين من التجوال بين حقول الموت وخنادق الجثث، وجدت الفرصة كي أخلو مع نفسي في ملجأ صغير،  وأبدأ بكتابة مقالتي مستعينا بجهاز ستيريو صغير "ووكمان" حيث كنت استمع إلى الشريط واستعيد اغنياته ثم أدوّن ملاحظاتي، وفيما كنت مندرجا في جو أبعدني لوهلة عن هواء صار نهبا لرائحة البارود وعلى امتداد نحو أسبوعين، دخل علي "رئيس عرفاء الوحدة" زاحفاً حيث كان من المستحيل على أيّ منا أن يمشي على قامته بسبب نار القناصة من الجانب الايراني، وطلب مني أن اذهب إلى ملجأ آمر الفوج وكان مثلي ضابط احتياط ولكنه أعلى مني برتبتين، وتم استدعاؤه الى منصب الامر بعد اصابة آمر الفوج الأصلي ومساعده فضلا عن مقتل وجرح عدد كبير من الضباط. 

كنت استمع إلى الاسطوانة الجديدة، حينها، للمغني الاميركي ليونيل ريتشي Lionel Richie والتي كانت تتضمن أغنيات بارزة منها  All night long    والاغنية الهادئة اللحن والعذبة الكلمات  Hello، حين دخل نائب الضابط الدميم الخلق والمعروف بشدة تملقه للآمرين، ولاحظت حين نزعت عن أذني سماعة جهاز التسجيل، انه أمعن النظر ألى الجهاز تارة وإلى أوراقي التي كنت أدون عليها ملاحظاتي تارة اخرى، ولكنني لم اتوقف عند تلك النظرة الخبيثة، فزحفت نحو ملجأ وكيل الآمر.

بعد نحو اسبوع وحين هدأت المعركة، وتخندقت وحدتنا جيداً، استدعاني آمر وحدتي الجديد (الرائد طارق التكريتي)، إلى موضعه فوجدت معه ضابط التوجيه السياسي في اللواء والمعروف بشدته ودمويته (الرائد حسن التكريتي) ومعهما أحد القياديين الحزبيين ممن كانوا يرسلون الى جبهات القتال لـ" المعايشة"، وكان الجو في الملجأ متوترا والعيون مصوبة نحوي بغضب واضح، وقبل ان التقط أنفاسي سألني حسن التكريتي: "أين الجهاز الذي كنت ترسل به الاشارات الى العدو" !

وبعد رد اظهرت فيه عدم معرفتي بالجهاز فضلاً عن استغرابي السؤال فواجبي هو في " التموين والنقل"، وليس في "المخابرة"، قال التكريتي: "اننا بعيون مفتوحة وتمكنا من معرفة اشارات ترسلها عبر جهاز في ملجئك، ولا فائدة من انكارك، فهناك الآن من ذهب الى موضعك وسيعود الينا بالجهاز،  فقل كل شيء بالتفصيل ".

حينها رسمت ابتسامة على شفتي، وتذكرت جهاز "ووكمان" مثلما تذكرت عيون "رئيس عرفاء الوحدة "، وقبل أن أسرد طبيعة الجهاز والأشرطة الموسيقية، جاء عدد من عناصر أمن اللواء والتوجيه السياسي ومع احدهم كان الجهاز،  وطلب مني التكريتي تشغيله،  وحين قرّبت الى اذنيه السماعتين،  قال: ما هذا انه ديسكو؟ لم أعلّق شيئا سوى انني استخدم الجهاز في الاستماع الى الموسيقى والكتابة عنها إلى مجلة "فنون"، وزدت على ذلك بالقول: هي مجلة تابعة لوزارة الثقافة والاعلام.  

بالطبع لم يصدر عن الثلاثة ما يفيد بالتراجع عن الاتهام لكنهم أمروني بالانصراف واحتفظوا بالجهاز على أمل إرساله الى "الاستخبارات العسكرية" للتأكد من انه لا يستخدم كجهاز لاسلكي .

بعد خروجي من ملجأ آمر الفوج، رمقت نائب الضابط قرب الباب وهو يتنصت إلى التحقيق معي، فاكتفيت بنظرة احتقار نحوه،  ولأنه من معدن الانحطاط البشري الذي كان سائدا بين المتطوعين من ضباط الصف في الجيش والمعروفين بالتملق إلى المتنفذين من الضباط، حاول النيل مني بطريقة تجنبه غضبي او غضب الاخرين فأشاع بين مراتب الفوج وصفه التالي "احنا نموت وندافع عن الوطن وعلي يسمع ديسكو". الحادث تحوّل إلى ما يشبه الفضيحة لأمر الفوج الذي عرفت لاحقاً انه كتب إلى المراجع العليا طالبا نقلي إلى وحدة أخرى، وهو ما تحقق فعلاً بعد ذلك وأنقذني من جحيم "مجنون".

* من سلسلة استعادات "أغنيات في الحرب"



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM