هذا هو الطريق ولا شيء سيحدث!

تاريخ النشر       29/09/2016 06:00 AM


علي عبد الأمير

كنت أقرب إلى الاستسلام التام لقدري، وأنا أسمعها لأول مرة في العام 1986، تلك أغنية The Way It is للمغني الأميركي بروس هورنسبي، وعلى الرغم من الإيقاع الجميل في لحنها، والصوت المتأسي للمغني وعزفه البارع على البيانو، إلا إنها كانت تحثني على السؤال: لماذا عليّ ان أمضي مستكيناً، مستسلما لهذا الطريق؟ 

كنت وعبر الأغنية ذاتها أغتال ذلك السؤال، فهي تتضمن إشارة إلى لا جدوى السؤال، "حيث لا شيء سيتغير أبداً".

كنت أوشك على الهروب بعد نحو عام من سماعي الأغنية- السؤال، وتحديداً حين ترجلت من السيارة التي كانت تقلّني إلى جبهة "نهر جاسم" في البصرة، حيث المعارك التي ستكون لاحقاً الأكثر وحشيةً وهولاً في تاريخ الحرب العراقية- الايرانية، ووقفت أمام الطريق الذي يأخذ الجموع إلى حتفها، وعدت متأسياً لأقول كما كلمات الأغنية  The Way It Is، ثم لماذا أهرب، وإلى أين؟ فالأشياء لن تتغير Some things will never change.


كانت الأغنيةُ عندي، نقيض ذاتها ومعناها، فبقدر ما وجدت فيها رهافةً نغمية وخامةً صوتية تعليان الحس الانساني، وجدت فيها أيضاً، نوعاً من القبول بالمصير والخضوع القدري، وهو غير ما وجدته لاحقاً في عمل آخر للمغني ذاته، وفيه قارب قصيدة الشاعر الاميركي روبرت فروست الشهيرة، The Road Not Taken، عبر أغنية بالعنوان ذاته، ولكن بلحن أقل ألمعية من صاحبي الأول، وأداءً أقل تأسياً ورهافة، مع إن النص الشعري لفروست ظل مدهشاً، يثني على الحيرة الانسانية، عبر مشهد انسان يقف حيال طريق تنقسم إلى إثنين، هما احتمالان ومساران، لكنهما لفرط قدرة الشاعر على تكثيف الدلالات يوصلان إلى النقطة ذاتها، التي محورها الانسان ذاته، رغم الاشارة إلى احتمال انقسامه إلى شطرين، كما الطريق.


علي عبد الأمير (كاميرا فادي آكوب)

الأغنية الأصلية ذاتها the way it is، بدت كالمصير الشخصي، ففي خريف العام 2004 وفي اللحظات الأولى لوصولي إلى واشنطن للعمل والإقامة الطويلة، وفي حافلة صغيرة كانت تقلني وعائلتي من المطار إلى مكان إقامة مؤقت، سمعت الأغنية وكأنها النذير العجيب ذاته، بان لا شيء سيحدث، Some things will never change، مع إن الانتقالة كانت كبيرة، ليس مكانياً وحسب، بل ثقافياً ومهنياً. تحققت نبوءة الأغنية، وهذه المرة برضا تام مني وتطامن عجيب، فقد كنت أشعرُ بالانسحاق الذي يوصل إلى الاستسلام التام مرتين، الأولى بعد اغتيال أخي ونبراسي ومعلمي الناقد والكاتب قاسم عبد الامير عجام، والثانية لأنني كنت لا أرى وحسب، بل أعيش الهاوية السحيقة التي كانت بلادي تمضي إليها.


بعد نحو شهرين على تلك اللحظة الغريبة، وهي أن أسمع الأغنية التي أعرف وأهوى في أول أمتار أمشيها على الأرض الأميركية، وجدت نفسي أمام مقهى عتيق في مظهره الخارجي بشارع "جورج تاون" الشهير في واشنطن، وهو ما يسحرني في المكان ويؤثر فيّ عميقا، فأفضّله على غيره، وكنت للمرة الأولى أخلو إلى نفسي بعد صخب كبير، ومع انهماكي بتصفح ملحق الكتب في جريدة "واشنطن بوست"، راحت أتغام البيانو المميزة تتقدم الأغنية ذاتها كأنها تحنو على حطامي: هذا هو الطريق ولا شيء سيحدث!



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM