ناظم الغزالي ... حلم عراقي صريع (2-2)

تاريخ النشر       14/10/2015 06:00 AM


 علي عبد الأمير

في الظاهرة التي شكلها الغزالي يمكن تلمس مكامن العذوبة الروحية ( تصويره الفاتن لمشاعر الحب في تجلياتها المكانية البغدادية والعراقية بعامة)، مثلما يمكن تلمس الجرأة في تغيير ما بدا مقدسا من اشكال غنائية ومنها "المقام العراقي" الذي جعله الغزالي انيقا وعصريا ومتعلما بعد صورة لازمته طويلا ( مؤدو المقام العراقي على الاغلب اميون ومن بيئات ظلت معزولة على يومياتها الداخلية). 

أمير بنات الطبقة المتوسطة

هو معشوق نساء الطبقة الوسطى العراقية في ازهى مراحل صعودها عبر قصص الحب المحلقة في اغنياته، لكنه كان في الواقع يعيش مخلصا لزوجة تكبره بسنوات كثيرة في اطار علاقة تغلب عليها الرتابة، وهو في ذلك يشبه عراقيون كثر ممن يبدون مهوسين بقصص حب شائقة لكنهم في اوقات الجد ينتهون الى بيوت الزوجية التقليدية. ومن هذه المفارقة، هو امين في التعبير عن الشخصية العراقية لجهة قوتها وغطرستها (ابن العائلة الفقيرة وقد صار نجم المجتمعات الراقية وشاغلها ) لكنه ايضا ذلك الوديع حد القبول بزواج من " سليمة باشا" بدا اذلالا له، وان حاول طبعه باطار عاطفي .


ولفرط عشقه لصوت المطربة سليمة مراد التي كانت تمتلك صوتا ساحرا وقابلية هائلة في اداء الاغاني التراثية، اقترن الغزالي بها، ومن خلالها استطاع التعرف على الطبقة الارستقراطية في ذلك الوقت وعشاق الحفلات والغناء، ومعها شكل "ثنائيا غنائيا"، واصبح بيتهما صالونا ادبيا يؤمه الشعراء والادباء والفنانون. وتظل حكايته مع المطربة سليمة مراد ( تعرفت إلى الغزالي عام 1952 في بيت إحدى العائلات البغدادية وغنيا معاً، ومنذ ذلك الوقت نشأت بينهما قصة حب انتهت بالزواج عام )1953، احدى اكثر الحكايات تشويقا، ونسج حول زواجهما العراقيون تفاصيل وزوائد كثيرة جاءت من "متن" مثلته المكانة الرفيعة للاسمين في الغناء العراقي، ومن "هامش" يبدأ من فارق العمر والثروة (سليمة ثرية واكبر عمرا منه ) ولا ينتهي بالفارق الديني (سليمة يهودية وهو مسلم). وبعيدا عن هامش الحكايات تلك ومتنها، فان الامر بدا وكما يرجّح مؤرخو الموسيقى العراقية المعاصرة "علاقة محسوبة "، معتبرين انها جاءت لمصلحة الطرفين، فالمطربة سليمة مراد كانت دخلت مرحلة الأفول بعد سنوات طويلة من الحضور الفني والاجتماعي الطاغي ( منحها رئيس الوزراء المخضرم نوري السعيد لقب باشا)، فيما كان الغزالي دخل عالم النجاح للتو، وحاجته الى سند مادي ومعنوي كانت حاسمة لبناء سيرته، علاقة عادت على سليمة باشا بفرصة البقاء وسط دائرة الشهرة والاضواء، وعلى الغزالي بخطوات سريعة وواثقة  نحو مجد ثقافي واجتماعي. غير ان " الخفي" في تلك العلاقة هو ما يستند الى " تفسير سايكولوجي" يرى ان الغزالي وجد في سليمة مراد جانبا مفقودا في حياته، رأى فيها بعض حنان الام الذي افتقده مبكرا، مثلما رأى فيها "معادلا موضوعيا" لخالته التي رعته صبيا محروما .

الغزالي وسليمة مراد: حنان مفقود .... متبادل


صورة "المطرب العاطفي"

عناصر "الحداثة" في تجربة الغزالي مطربا وصاحب مدرسة غنائية، لم تكن استعارة خارجية، بل ان تيار التحديث الذي كان يعيد بناء المجتمع العراقي (وبشكل خاص قبل تموز  1958) في مجالات المعرفة العلمية والثقافية والفكرية، هو الذي شكل الاطار الطبيعي والمتناغم مع الحان اغانيه وموضوعاتها القائمة على تجاوزت التكرار والتتابع السائدين في اللحنية العراقية، فضلا عن مقاربته وجدانيات لم تكن الاغنية العراقية قاربتها، خذ اغنية " تصبح على خير " مثالا لتجد عالما جديدا اكثر تفاؤلا وأملا، عالما يحض على الجمال المطبوع بحياة نظيفة تتسع لطيف عاطفي واسع وليس "عاطفة المرأة والرجل " بالضرورة .

 وصوت الغزالي شغل  المحبين في مناطق كثيرة من العراق، وتحديدا في بغداد التي صارت طبقتها الاجتماعية الوسطى تتناقل بأعجاب اسطواناته الجديدة، وما تحفل به من اغنيات وموسيقى مبتكرة على ما اعتادته الاسماع من تراكيب ثقيلة كانت تميز الالحان العراقية. صوت الغزالي حاد النبرات لكن كيمياء عجيبة كانت تجعل ذلك الصوت "التينور" يشرق بين صياغات  موسيقية مبتكرة زادها روعة وتجديدا، ذلك  التوزيع الموسيقي الذي اضفى على البنية اللحنية غنى وتركيبا .

ومن الملامح التي لا يمكن اغفالها في "الظاهرة" الغنائية التي شكلها ناظم الغزالي، هي تلك الانتقالات من اعمال غنائية "عادية " الى مرحلة الصياغات الرقيقة في نصوص اعتمدت انتقاء المفردة الجميلة الذكية التي تدعو الى الحب والجمال واللقاء بعيدا عن "البكائية" والنواح التقليديين في الاغنية العراقية. وعبر مثل تلك النصوص الغنائية من المفردات "الدارجة" العراقية والاقرب الى العربية الفصيحة تمكن الغزالي من عبور "المحلية"، ووصل الى قطاع عريض من الجمهور العربي، وليس صدفة ان يكون آخر حضور فني له هو في بيروت التي قرر مغادرتها في الخامسة والنصف فجر العشرين من تشرين الاول 1963، وقاد سيارته صحبة الملحن والعازف سالم حسين فوصل بغداد في الثانية من فجر اليوم التالي. ويبدو ان الرحلة الاخيرة الطويلة اسقطت قلب المغني الوسيم على الرغم من انه يبلغ الثانية والاربعين.

في ظهيرة ذلك اليوم التشريني بثت اذاعة بغداد خبر وفاة ناظم الغزالي لينزل كالصاعقة على قلوب العراقيين الذين كانت ماكينة الانقلاب البعثي الدموي ( 8 شباط 1963) تطحنهم ، فذرفوا على احد اعلام الموسيقى العراقية، دمعا كثيرا كان من نهر دموعهم الذي سيمتد هادرا وفياضا لأكثر من خمسين عاما.

* الجزء الثاني من دراسة بالعنوان ذاته



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM