نقد أدبي  



عن القمح المبتسم ... جهاد هديب

تاريخ النشر       11/11/2015 06:00 AM


علي عبد الأمير

شرفات صغيرة تطلع من كتف المقهى، كأنها براعم من جذع شجرة عتيقة، فتوحي بإنتماء حقيقي للتجدد والتواصل، الأذرع تتحرك وهي تطوي أو تقلب الصحف، ثمة توزعات لأشخاص يكتبون رسائل أو ملاحظات أو حتى مسودات أعمال أدبية او مقالات صحفية، ولكنني اهتديت الى الشرفة الخاصة بنا: جهاد هديب، غازي الذيبة، أحمد النسور وأنا، ليس بالضرورة ان نكون معا، ولكن بالضرورة ثمة نشيدنا الذي عادة ما تعلو نبراته حد الصراخ احيانا، الا انه يصفو حد الغناء الخفيض الشجي في كل مرة يكون فيها، "القمح المبتسم"، جهاد هديب حاضرا الى امسية تشف لفرط النبرة الحيية الخافتة في صوته.

 

مقهى النشيد الخافت النبرات

كان عهدي الاول في عمّان التي امتلكت وجداني، بعد بغداد، قد ابتدأ في فضاء "مقهى العاصمة"، وبحميمية الفضاء الذي يتشكل فيه، في الوجوه المتطلعة العيون، في الايدي التي توميء وتشير وتتحرك اثناء الحديث او القراءة والكتابة، في المكان-المواعيد، المكان- الاحتمالات، المكان الذي غادَرَنا منه اصدقاء عراقيون الى منافيهم وحضر اليه آخرون من البلاد، كي يرحلوا الى امكنة بعيدة. وهناك في لجة الاسئلة التي تعنيها كل تلك الوجوه/ النفوس/ الظنون/ التطلعات، كانت لنا شرفة، كتبت عنها فصلا في كتابي المؤجل عن الثقافة العراقية في عمّان، واسميتها شرفة النشيد الخافت النبرات، وهو اذ كان نشيدا حقا، لفرط ما عناه المكان من اتصال وجداني-ثقافي، فانه ما كان خافت النبرات الا مع جهاد هديب، الشاعر الذي تعرفت اليه عبر صديق مشترك هو الفياض بالمحبة والالفة: غازي الذيبة، واحببت فيه ذلك الاسى المرتسم على وجهه القمحي، الذي يخفي نزوعا هائلا نحو الحياة البهيجة واغنياتها الطافحة بالامل، ففي كل مرة اكون معه، اتعرف وبيقين على  ان انسان مبلل بالوجدان الانيق والمشاعر المترفة، مع انه كان شاعرا حزينا و "وطنيا" كزيتون دعكته الشمس بافراط.

الشاعر والكاتب جهاد هديب 1967-2015


في المكان ذاته، كنت اطل على نصوص كتَبها شبّان يحملون وجهات نظر تتسم بالإختلاف، ويتأكد ذلك عبر زوايا التقاط المشهد الحياتي والآخر كحلم قصي، وبحضور لغة مفارقة للاستخدامات الشائعة في كتابة الاشكال الابداعية هنا في عمّان من شعر وقص، وعنيت بكشف عن علاقة الكائن الانساني بالمكان: إنشغالاته، بحثه الدائب عن فرصة عيش ممكنة، وتعاطي المثقف ايضا مع هذه البؤرة الفوارة وإكتشافه للطاريء والحياتي اليومي والناتج للعابر، والنصوص إذ تنشغل بقيمة كهذه، فهي كانت تأمل بالنقيض والمضمر في علاقات تبتعد عن الراهن لتظل سؤالا انسانيا قلقا. من تلك النصوص كانت التي يطلعني عليها صاحب النظرة الصديقة المتأسية، الذي جاءني مبتهجا بعدما قرأ ما كتبته عنها في اسبوعية "المشرق" الاردنية، ولاحقا في "مشارف" الفلسطينية.

أوصد "مقهى العاصمة" ابوابه، وعلقت على اعمدته اشارات تقول انه سيتهدم، واغلقت الشرفات، لكن النشيد، وجد له صالات مسرة، مثلتها امسيات "الفينيق" تارة، وساعات الكد والدأب في العمل الصحافي الثقافي: هو في "الدستور" وانا في "الرأي"، ثم كلانا في "الحياة"، هو لتوثيق الحيوي في ثقافة عمّان، وانا في تعقب اداب المرجل العراقي وفنونه، وفي كل هذا الانشداد والترقب والضنك، ظلت في النشيد نبرته الخافتة الانيقة، مثلما ظل وجه جهاد، كناية عن "قمح مبتسم".

سال دم كثير في طريقي، حين بعدت بيننا المسافات، مثلما شق الاسى دروب جهاد، انا احمل كتاب اخي القتيل الى البعيد البعيد، وهو ما انفك يربّت برضا على أساه، وهذه المرة بمسار بدا معه القمح بابتسامة اقل، لكن بالنشيد الشجي ذاته، الذي خفتت نبرته حد حنجرة* احكم الوقت أسلاكه الشائكة عليها.

 * جهاد هديب شاعر وكاتب أردني، توفي بسرطان الحنجرة الاسبوع الماضي.

 


 



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM